“كوفيد” ترك آلاف الشركات الصغيرة فى الهند تناضل لسداد الديون ويهدد قصة نجاح اقتصادية
على مدى العقود الأخيرة، شهدت الهند توسعاً في تقديم الائتمان، إذ حصل ذوي الدخل المنخفض على قروض لدفع ثمن كل شيء من الأبقار الحلوب، إلى المنازل الجديدة، إلى الشركات الصغيرة التي تخلق فرص عمل.
وأشيد بنموذج التمويل الصغير هذا الذي تم استخدامه في جميع أنحاء العالم النامي، للمساعدة في توفير الأمن المالي اللازم لانتشال الملايين من الفقر.
كانت معدلات السداد المرتفعة بمثابة مكافأة للمقرضين الهنود الذين قدموا الائتمان لهم، ما جعلها من بين المحافظ الأكثر صحة في القطاع المالي الذي كان يعاني من واحدة من أعلى نسب القروض المتعثرة في العالم.
هذا الأمر تناقض فعلياً مع إقراض الشركات على نطاق واسع للمليارديرات الأباطرة، الذين قدم بعضهم رهانات فاشلة على قطاعات مثل الطاقة أو شركات الطيران أو اتهموا بسرقة الأموال.
وعكس الوباء هذه الديناميكية، إذ كانت الشركات الأكبر في وضع أفضل لتحمل الصدمات الاقتصادية، والاستفادة من السيولة السهلة، واكتساب حصة في السوق، وخفض التكاليف بعدة طرق من بينها تسريح العمال.
في غضون ذلك، اُكتشف افتقار الهنود من ذوي الدخل المنخفض والشركات الصغيرة لوجود شبكة أمان، حيث عانوا للعمل عبر الإنترنت، ودفعت حالات الطوارئ الصحية الناجمة عن الوباء الكثيرين إلى الديون وخفضت البنوك الإقراض غير المضمون عالي المخاطر.
وحذر بنك الاحتياطي الهندي في تقرير الاستقرار المالي لشهر يوليو، من علامات التوتر بين الشركات الصغيرة والمقترضين الأفراد، حسبما نقلت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
ويخشى المحللون من أن هذا الأمر قد يترك ندوباً على الاقتصاد والنظام المالي في الهند، مما يؤثر على النمو ويؤدي إلى تفاقم أوجه التفاوت لأعوام مقبلة.
يقول سيدهارث جويل المحلل في وكالة التصنيف الائتماني “فيتش”: “بالنسبة للاعبين الأكبر، فهم قادرون على الانتعاش بشكل أسرع.. لكن المقرضين الإقليميين الأصغر حجماً واللاعبين في مجال التمويل الصغير الذين تُخفض حصتهم، قد يعني ذلك مواجهة مشاكل. وقد يكون هناك تحول في الحصة السوقية، حيث يصبح القوي أقوى، والضعيف أضعف”.
لقد شهد بنك باندهان ارتفاع حصته من القروض المتعثرة- التي تأخر سدادها أكثر من 90 يوماً- إلى 8.2% في الربع المنتهي في 30 يونيو من أقل من 2% قبل كوفيد.
ويشير الوسيط “موتيلال أوسوال” (Motilal Oswal) إلى أن خُمس قروض بنك باندهان الأخرى تأخر سدادها بمدة أقل من 90 يوماً.
وشهد مقرضو التمويل الصغير والشركات الصغيرة الأخرى انخفاضات مماثلة في عمليات التحصيل.
ومع ذلك، يعتقد شاندرا شيخار جوش، وهو مؤسس بنك باندهان، أن العملاء المتعثرين سيبدأون في السداد مرة أخرى، لكنهم بحاجة لوقت للتعافي، قائلاً: “سيعود أولئك الأشخاص، إنهم فقط يطلبون بعض الوقت. إنهم يعملون، فهم لن يتمكنوا من المكوث دون أعمالهم”.
وأوضح جوش أن “هذا النوع من العملاء لا يدرك تأثير 90 يوماً، فهم يقولون فقط أعطني بعض الوقت سيدي، وسأعود”.
استثمارات تغير الحياة
أصبح الارتفاع في أعداد المقرضين مثل بنك باندهان قصة نجاح التمويل الهندي، فقد درس مؤسس البنك جوش، وهو ابن صاحب محل حلويات، في بنغلادش حيث رأى نموذج التمويل الصغير الذي ابتكره محمد يونس، وهو مؤسس بنك جرامين الحائز على جائزة نوبل.
عادةً ما يقدم المقرضون قروض غير مضمونة منخفضة تصل لبضعة دولارات للمقترضين الفقراء، وأغلبية هؤلاء المقرضين تكون من النساء، الذين اعتمدوا بخلاف ذلك على مقرضي الأموال غير الرسميين بمعدلات فائدة من ثلاثة أرقام تحاصرهم في دورات الديون.
يمكن استخدام هذه الأموال في استثمارات من شأنها تغيير حياة المرء في شيء بسيط مثل ماكينة الخياطة لبدء تجارة ملابس متواضعة.
وغالباً ما يتم منح المقترضين قروضا في مجموعات تلتقي بانتظام، وأحياناً يكونوا مسؤولين بشكل مشترك عن ديون بعضهم البعض، ما يخلق مستوى من حس المسؤولية تجاه بعضهم البعض ويساعد ذلك على إبقاء معدلات السداد مرتفعة.
يعد بنك باندهان، الذي تأسس في مدينة كولكاتا الهندية في عام 2001 ولديه 12 مليون عميل، واحداً من قلة من المقرضين منذ عام 2014 الذين حصلوا على ترخيص من بنك الاحتياطي الهندي للتحول إلى بنك كامل الأهلية.
على عكس العديد من مقرضي التمويل الصغير أو الشركات المالية غير المصرفية، الذين عادةً ما يعانون للحصول على التمويل، يمكن لبنك باندهان الوصول إلى أموال رخيصة من خلال المودعين.
وقد تنوعت أنشطته إلى قطاعات مثل الرهون العقارية، كما نما دفتر قروضه إلى أكثر من 800 مليار روبية، رغم أن نحو ثلثي أعماله لا تزال في التمويل الصغير.
ومع ذلك، تعرض التمويل الأصغر لفضائح بعد أن استخدم المقرضون عديمي الضمير المضايقات والعنف أحياناً لفرض السداد، وأوقفت ولاية أندرا براديش في عام 2010 جميع عمليات التحصيل الخاصة بالقروض الصغيرة بعد أن ألقي اللوم على 30 حالة انتحار في الولاية على ضغوط إعادة السداد، مما أثار أزمة في هذه الصناعة لأعوام عديدة.
زاد الضغط على القطاع قبل الجائحة، حيث أدى التباطؤ الاقتصادي الذي بدأ في عام 2018 إلى زيادة الضغط على المقترضين، كما أدت الإخفاقات البارزة للشركات المالية غير مصرفية المتهمة بارتكاب مخالفات إلى حدوث أزمة ائتمانية، وأصبحت البنوك التي قدمت التمويل الصغير أو مقرضي الشركات الصغيرة حذرة من هذا القطاع.
وأشارت “فاينانشيال تايمز” إلى أن كوفيد أثبت أنه صدمة أعمق بكثير، حيث دفع الهند إلى انكماش تاريخي.
بعد أن فرضت البلاد عمليات الإغلاق في مارس 2020، كشف البنك الاحتياطي الهندي النقاب عن تأجيل لمدة ستة أشهر لسداد القروض وبرنامج إعادة الهيكلة المصمم لمنع موجة فورية من التخلف عن السداد.
ووجدت دراسة أجرتها الجمعية الصناعية “سا-دهان” (Sa-Dhan) أن نحو 90% من مقرضي التمويل الصغير مددوا مهلة السداد للعملاء.
ساعد هذا القطاع المصرفي على تجنب أسوأ ما قد يحدث في الارتفاع المتوقع في القروض المتعثرة، لكن إجراءات الإغاثة هذه كانت في الغالب قد استكملت مسارها بحلول الوقت الذي اندلعت فيه موجة الوباء الثانية في الهند في مارس الماضي، التي سجلت البلاد في ذروتها أكثر من 400 ألف إصابة و4 آلاف حالة وفاة يومياً، وكانت المستشفيات مكتظة وأعادت السلطات المحلية فرض قيود الإغلاق.
وكان المقترضون الصغار، الذين أضعفتهم الموجة الأولى بالفعل، غير مستعدين لمواجهة هذا الأمر.
تقول هارديكا شاه، مؤسسة شركة الإقراض التي تقدم قروض للشركات الصغيرة “كينارا كابيتال” ومقرها بنجالور: “أعمالنا الصغيرة شهدت بالفعل تقلص تدفقات إيراداتها مرة أخرى، وبشكل ملحوظ. لا يريد العملاء التخلف عن السداد حقاً، فقد كانوا في وضع سئ فقط، وهذا الوضع تفاقم بسبب الوباء ومستوى الألم”.
ألم طويل الأمد
تقترب الهند من موسم الأعياد السنوي، عندما تعزز سلسلة من الاحتفالات الهندوسية- ذات الأهمية الخاصة في كولكاتا وشرق الهند- النشاط التجاري وشراء الهدايا، فهذا الوقت يعتبر الأهم في العام بالنسبة للعديد من الشركات.
ومع ذلك، ثمة مخاوف من إمكانية إلغاء هذه الاحتفالات بسبب تفشي موجة أخرى من الوباء، والتي يحذر بعض خبراء الصحة العامة من إمكانية وصولها في الأشهر المقبلة.
ويأمل جوش، مؤسس “بندهان”، في أن يساعد الاستعداد الأفضل وتغطية التطعيم على تجنب التعطيل الذي تسببت به الموجات السابقة، حيث تلقى أكثر من ثلث سكان الهند البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة جرعة واحدة على الأقل من لقاح كوفيد، بينما تعهدت السلطات المحلية والمستشفيات بتعزيز إنتاج الأكسجين الطبي والبنية التحتية الصحية الأخرى.
لقد انتعش نشاط التصنيع والخدمات بالفعل، وتتوقع وكالة التصنيف الائتماني “ستاندرد آند بورز” أن ينمو الاقتصاد الهندي بنسبة 9.5% في العام المنتهي في مارس، وإن كان انطلاقاً من قاعدة منخفضة عقب الانكماش في العام الماضي، لكن الوكالة تتوقع أن يعاني القطاع المالي ألماً طويل الأمد، مع بقاء حصة القروض المصرفية الضعيفة مرتفعة إلى 12% لمدة عام آخر على الأقل.
لقد أدخلت الحكومة تدابير إغاثة، مثل برنامج الضمان الائتماني بقيمة 75 مليار روبية لمقترضي التمويل الصغير، رغم أن المحللين يقولون إن البنوك لاتزال مترددة في تمويل التركيبة السكانية الضعيفة.
يبدو أن أعواماً من المكاسب في الإدماج المالي والتخفيف من حدة الفقر معرضة للخطر، فقد وجدت دراسة خلال موجة الوباء الأولى العام الماضي في ولاية تاميل نادو الجنوبية، أن ثلث الشركات الصغيرة والمتوسطة مستعدة للعودة إلى مقرضي الأموال غير الرسميين بسبب صعوبة تأمين القروض من المؤسسات الرسمية والحاجة الملحة إلى السيولة.
ووجد مركز الأبحاث “بيو” أن صفوف فقراء الهند، الذين يقل دخلهم عن 2 دولار يومياً، تضخمت بمقدار 75 مليون في عام 2020، قبل الموجة الأخيرة، بعد أن كانت تشير التوقعات إلى أن استهلاكهم قد يكون محرك النمو في الهند لأعوام عديدة مقبلة.