تأسيس اتحاد أسواق رأسمالية مفتاح التحول الأخضر لأوروبا

قال جان مونيه، ذات مرة، وهو أحد مهندسى الاتحاد الأوروبى، إنَّ الوحدة الأوروبية «سوف تتشكل فى الأزمات، وستكون مجموع الحلول المعتمدة فى التعامل مع هذه الأزمات»، وقد قدَّم العقد ونصف العقد الماضى تأكيداً إضافياً لتنبؤات مونيه.

وعلى عكس توقعات العديد من خبراء الاقتصاد البارزين، نجح الاتحاد الاقتصادى والنقدى فى الاتحاد الأوروبى فى تخطى أزمة ديون اليورو، وما زال قوياً بفضل آلية تحقيق الاستقرار الأوروبية.

وقد ساعدت خطة يونكر (خطة الاستثمار فى البنية التحتية للاتحاد الأوروبى) فى إعادة الاقتصاد الأوروبى إلى مساره الصحيح، وقد ساعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى على توحيده، بعيداً عن تفكيك الاتحاد.

ومنذ عام 2000، أثبت الاتحاد الأوروبى مراراً قدرته على تقديم الحلول الفعالة وإظهار التضامن، لكن البحث المُستمر عن حلول سريعة للأزمات الحادة له جانب سلبى كبير.. فقد تحول مشروع استكمال السوق الأوروبية الموحدة إلى أسفل جدول الأعمال السياسى.

ولم تلعب مثل هذه القضايا على مستوى الاتحاد الأوروبى أى دور فى الحملة الانتخابية الألمانية هذا العام، بالرغم من أن تعزيز السوق الموحدة يُعد أمراً حاسماً لمواجهة المنافسة الاقتصادية المتزايدة من جانب الولايات المتحدة والصين.

ويقول كريتسان سيوينج، المدير التنفيذى لبنك «دويتشه»، وفيرنر هوير، رئيس بنك الاستثمار الأوروبى، فى مقال لهما، إنَّ أوروبا ببساطة لا تُدرك إمكانياتها، ويمتلك الاتحاد الأوروبى بالفعل سوقاً موحدة للسلع، ولكنها ليست سوقاً تعمل بشكل كامل للخدمات، لا سيما فى الاقتصاد الرقمى المزدهر.

وإذا عملت إحدى الشركات الناشئة فى وادى السيليكون على تطوير منتج جيد، فإنها تتمتع بالقدرة على الوصول الفورى إلى سوق محلية ضخمة، ويمكن أن تنمو إلى درجة تمكنها من الاحتفاظ بالمنتج الخاص بها على الصعيد العالمى، لكن فى أوروبا، سيتعين على الشركة الناشئة نفسها أن تقضى سنواتها الأولى فى التعامل مع العديد من محامى الضرائب الأجانب والهيئات التنظيمية الوطنية إلى الحد الذى يجعل التوسع الدولى بلا قيمة.

كما تفتقر أوروبا إلى اتحاد لأسواق رأس المال واتحاد مصرفى حقيقى، ونظراً إلى وجود اختلافات تنظيمية كبيرة بين بلدان الاتحاد الأوروبى، فإنَّ حَمَلة الأسهم الأوروبيين ومستثمرى سندات الشركات يتجنبون أى عروض خارج حدود بلدانهم، ما قد يؤدى إلى التخلى عن فرص استثمارية أكثر جاذبية، وهذا يُسلط الضوء على الحاجة إلى تحقيق هدف إنشاء اتحاد مصرفى، والذى يشمل الإشراف المصرفى المشترك، وآلية التسوية المصرفية، وضمان الودائع المشتركة.

ويتعين على الحكومات الأوروبية ـ أيضاً ـ التغلب على شكوكها بشأن تحويل القروض إلى أوراق مالية «التوريق المصرفى»، والذى يُشكل عنصراً أساسياً فى اتحاد أسواق رأس المال.

صحيح أن القروض المُجمعة تسببت فى اندلاع الأزمة المالية لعام 2008، ولكن ذلك فقط؛ لأن هذه القروض لم تكن خاضعة للرقابة، ومن خلال تحسين التنظيم والمراقبة، يمكن أن يُشكل التوريق المصرفى أداة قوية للبنوك لجذب رؤوس أموال إضافية للحصول على قروض تجارية جديدة، وتمويل الاستثمارات فى التكنولوجيات الخضراء.

ولقد نجحت المفوضية الأوروبية فى وضع استراتيجية طموح للتحول الأخضر والرقمى لاقتصاد الاتحاد الأوروبى، وذلك من خلال إرسال إشارة مهمة إلى بقية بلدان العالم، لكن غياب سوق رأس المال التنافسية يُهدد الأهداف المناخية الطموحة التى يسعى الأوروبيون إلى تحقيقها.

وهناك حاجة إلى تنفيذ استثمارات ضخمة فى هذا العقد من أجل تحويل الطاقة والنقل، وقطاعات ضخمة من الصناعة، وملايين العقارات، فضلاً عن حماية شعوب أوروبا من الآثار المُدمرة الناجمة عن تغير المناخ، والتى كانت واضحة للغاية فى الصيفين الماضيين.

ولن يتسنى تحقيق هذه الأهداف إلا إذا عملت الحكومات مع بنوك القطاعين العام والخاصة لإشراك المستثمرين من القطاع الخاص عبر الحدود، كما يتعين على أوروبا سد فجوة تمويل العمل المناخى التى تبلغ 350 مليار يورو «401 مليار دولار» سنوياً على مدى السنوات العشر المقبلة على الأقل.

وربما اعتدنا على قيام الحكومات والبنوك المركزية بتوفير مبالغ ضخمة من المال لدعم الاقتصاد، لكن هذا لن يدوم إلى الأبد، ولن تظل أسعار الفائدة منخفضة للغاية على المدى الطويل، وسوف تصل الديون السيادية إلى حدودها، ولن تكون الضرائب المرتفعة كافية لتمويل هذا التحول الذى قد يحدث مرة واحدة فى كل قرن من الزمان.

ومع ذلك، يمتلك الاتحاد الأوروبى بالفعل الأداة التى يحتاج إليها لسد هذه الفجوة:

إنه فى حاجة فقط خلق أسواق رأسمال حقيقية، واتحاد مصرفى، وبوسعنا أن نرى ما يمكن تحقيقه من خلال القواعد المشتركة إذا تطلعنا إلى تحقيق التمويل المستدام.

ومع إصدار أول سند أخضر، قدم بنك الاستثمار الأوروبى «EIB» قوة دفع مهمة لسوق السندات الخضراء وسندات الاستدامة، وقد أسفر ذلك عن فهم السوق الموحدة لما يُشكل سنداً أخضراً أو مستداماً.

وعلاوة على ذلك، ومع تصنيف الاتحاد الأوروبى، توجد الآن معايير شفافة لتحديد الأنشطة الاقتصادية الخضراء بالفعل أو التى من الممكن أن تتطور فى هذا الاتجاه، ولدى المستثمرين مجموعة واضحة من القواعد التى يتعين استخدامها كدليل للتمويل المستدام، وتُمثل هذه الشفافية على مستوى الاتحاد الأوروبى خطوة ضخمة إلى الأمام، ما يؤدى إلى تحويل فكرة كانت موضع سخرية ذات يوم إلى سوق تبلغ قيمتها تريليون يورو.

وفى ظل اتحاد حقيقى لأسواق رأس المال، سوف يعمل الاتحاد الأوروبى على توسيع فرص التمويل للشركات، وجذب رؤوس الأموال من مختلف أنحاء العالم، وقد يصبح اليورو منافساً حقيقياً للدولار.

وفى الوقت الحالى، تعتمد الشركات الأوروبية بشكل كبير على القروض؛ حيث تُوفر بنوك القطاع الخاص مثل البنك الألمانى 80% من تمويل الشركات، وبالرغم من أن البنوك ستقدم مساهمة حيوية فى التحول الأخضر والرقمى للقطاع الخاص، فإنها لا تستطيع تحمل متطلبات التمويل الضخمة وحدها.

ففى حين تحصل 60% من الشركات الأمريكية على التمويل من سوق رأس المال، فإنَّ 20% فقط من الشركات الأوروبية تحذو حذوها، وإذا كان بوسع المزيد من الشركات الأوروبية القيام بذلك، فسيتم توفير مبالغ ضخمة للاستثمار، ولن تضطر الشركات الناشئة الأوروبية إلى البحث عن مستثمرين أمريكيين خلال مرحلة نموها، ولن تحتاج الشركات الرائدة الأوروبية، مثل شركة بيونتيك الألمانية «الذين تلقوا تمويلاً أولياً من بنك الاستثمار الأوروبى» إلى اللجوء لمؤشر «ناسداك» عندما تدخل احتياجاتهم التمويلية فى نطاق مئات الملايين من الدولارات.

وإذا كان اعتقاد «مونيه» بشأن الاتحاد الأوروبى صحيحاً، فستكون أزمة المناخ الخطوة التالية نحو تعميق التكامل، ولن يتسنى للتحول الأخضر والرقمى الأوروبى أن ينجح إلا إذا سار جنباً إلى جنب إكمال السوق المُوحدة، بما فى ذلك أسواق رأس المال والاتحاد المصرفى.