ربما حاولت روسيا بناء «اقتصاد حصين»، لكن الغرب هو الجانب الذى يبدو حالياً محصناً من الناحية المالية، فقد أحدثت العقوبات الغربية أزمة اقتصادية عميقة فى البلاد، لكن عواقبها على العالم الغنى كانت صغيرة.
وبالرغم من انخفاض الأسهم الأمريكية بشكل حاد عندما بدأت الحرب فى أوكرانيا 24 فبراير الماضى، فإنها أغلقت فى 2 مارس أعلى بنسبة 4% تقريباً من مستواها فى الليلة السابقة للغزو الروسى.
كما انخفضت الأسهم الأوروبية بنحو 4%، وهى ضربة كبيرة، لكن كل هذا الانخفاض لا يمثل شيئاً مقارنة بالهزيمة المالية الجارية فى روسيا؛ حيث انهارت العملة، وتوقف تداول الأسهم لأيام.
يعكس رد الفعل الصامت جزئياً انخفاض ثقل روسيا فى الاقتصاد العالمى، كما أن الفقر النسبى فى البلاد وانخفاض عدد السكان عند مقارنتها بباقى أوروبا يعنى أن مصدريها يعتمدون على الطلب الأوروبى.. لكن ليس العكس، حسبما ذكرت مجلة «ذى إيكونوميست» البريطانية.
يقدر بنك «جولدمان ساكس»، أن خسارة الصادرات الناجمة عن انخفاض 10% فى الإنفاق الروسى ستكلف منطقة اليورو حوالى 0.1% فقط من إجمالى الناتج المحلى، والتكلفة الاقتصادية التى تتحملها بريطانيا ستكون أقل؛ حيث تعد الروابط المالية متواضعة.
مع ذلك، فإنَّ الأهمية الاقتصادية لروسيا تفوق إلى حد كبير ناتجها المحلى الإجمالى أو نفوذها المالى؛ بسبب صادراتها من الطاقة، فهى تنتج نحو خُمس الغاز الطبيعى فى العالم، وأكثر من عُشر البترول فى العالم، الذى يقود سعره كثير من التباين قصير الأجل فى التضخم العالمى.
عادةً ما تأتى 30 ـ 40% من إمدادات الغاز فى الاتحاد الأوروبى من روسيا، بالرغم من أن هذه النسبة انخفضت إلى 20% تقريباً فى الأشهر الأخيرة؛ نظراً إلى زيادة واردات أوروبا من الغاز الطبيعى المسال الأمريكى.
جدير بالذكر، أن الغاز الروسى لا يعمل على تدفئة المنازل فى أوروبا فقط، بل إنه يتجه للكثير من إنتاجها الصناعى بالطاقة.
وتعتبر إيطاليا وألمانيا الأكثر تعرضاً لهذه الأزمة بشكل خاص ضمن الاقتصادات الكبيرة الأخرى.
وارتفعت أسعار الطاقة بشكل كبير بداية مارس، وارتفعت الأسعار الفورية للغاز الطبيعى فى أوروبا الآن بأكثر من ضعف مستواها فى بداية فبراير، وكذلك أسعار العقود الآجلة للتسليم فى ديسمبر 2022، ما يعكس جزئياً تعليق أعمال خط أنابيب «نورد ستريم 2» من روسيا إلى ألمانيا.
وأشارت المجلة إلى أن شح الطاقة سيؤدى إلى تفاقم مشكلة التضخم فى أوروبا، بينما سيضر أيضاً بنموها الاقتصادى.
ورفع بنك «جى بى مورجان تشيس» توقعاته للتضخم فى منطقة اليورو نهاية العام بمقدار 1.1% لتصل إلى 3.6%، بينما خفض توقعاته للنمو لعام 2022 بمقدار 0.6% لتبلغ 4.1%.
بصفتها منتجاً للبترول والغاز، فإنَّ الولايات المتحدة تعتبر معزولة فى الغالب عن العوائق التى تواجه النمو، لكنها ستشعر بالآثار التضخمية للبترول الذى ارتفع سعره كثيراً.
يمكن أن تزداد الأمور سوءاً فى حالة توسيع نطاق العقوبات لتشمل مشتريات الطاقة أو إذا انتقمت روسيا منها بخفض صادراتها.
وتتوقع «جى بى مورجان تشيس» أن الإغلاق المستمر لإمدادات البترول الروسية قد يتسبب فى ارتفاع الأسعار إلى 150 دولاراً للبرميل، وهو مستوى كافٍ لخفض 1.6% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى مع رفع أسعار المستهلك بنسبة 2% أخرى.
وإذا استمر تدفق البترول والغاز، فإنَّ الزيادات الحالية فى أسعار كل منهما ستجعل الوضع غير مريح بالنسبة للبنوك المركزية، التى كانت على أى حال ترفع أو تستعد لرفع أسعار الفائدة، فهى عادةً ما تتحمل التضخم الناجم عن الطاقة باهظة الثمن.
تشعر البنوك المركزية بالقلق، أيضاً، من أن استمرار التضخم المرتفع منذ الصيف الماضى قد يدفع الشركات إلى الاعتقاد بضرورة الاستمرار فى زيادة الأسعار بوتيرة سريعة، واستمرار مطالبة العمال بأجور أعلى.
بعبارة أخرى، ربما يكون التضخم اتخذ زخماً خاصاً به، ولا يمكن للزيادات الإضافية فى أسعار الطاقة، لكن تزيد من هذا الخطر، فضلاً عن زيادة الضغوط على النمو؛ بسبب أسعار الفائدة المرتفعة.
فى الوقت نفسه، يراهن المستثمرون على أن التضخم الذى يشهده العالم الآن سيكون مؤقتاً، حتى بعد أن تفاقمت معدلاته؛ بسبب الغزو الروسى لأوكرانيا، فضلاً عن أن أسعار الفائدة على المدى الطويل من المرجح أن تكون أقل قليلاً من التوقعات السابقة.
مع ذلك، هذه المراهنات لا تعنى أن الأسواق متفائلة، إذ جادل بعض الباحثين فى الأعوام الأخيرة بأن أسعار الفائدة الحقيقية المنخفضة طويلة الأجل تعكس بشكل جزئى الدافع لتكديس الأصول الآمنة، وتزداد احتمالية مخاطر حدوث تطورات غير متوقعة، والتى عادةً ما تكون أحداث نادرة لكن تكلفتها باهظة.
وبعد عامين من تفشى وباء «كوفيد-19 » ومع اندلاع الحرب فى أوروبا، لم تكن هذه الفرضية مناسبة إلى هذا الحد أبداً.







