النمو فى العالم الغنى يتباطأ لكنه لم يتوقف
أصبح الجميع متشائماً هذه الأيام، فبالكاد يمر يوم دون أن يقلل خبراء الاقتصاد توقعاتهم.
فى 14 يوليو، قال ستيفن بليتز، من شركة الأبحاث الاستثمارية «تى. إس لومبارد»، إنه يتوقع معاناة أكبر اقتصاد فى العالم من ركود خلال العام الحالى، بعد يوم من إدلاء «بنك أوف أمريكا» بتوقعات مماثلة.
كذلك، يعتقد بنك «جولدمان ساكس»، أن الناتج المحلى الإجمالى الألمانى انكمش فى الربع الثانى من العام، وأنه سيتراجع أيضاً فى الربع الثالث.
على مدى الـ18 شهراً الماضية، تضافرت عدة عوامل لخلق مزيج سام للاقتصاد العالمى، بحسب مجلة «ذا إيكونوميست» البريطانية.
واستجابة لوباء كوفيد- 19، بالغت الولايات المتحدة فى تحفيز اقتصادها، ما أدى إلى حدوث تضخم ليس داخل حدودها فحسب، بل خارجها فقط، إذ أثر الطلب النهم للمستهلكين على السلع، على سلاسل الإمداد العالمية.
كذلك، أدت محاولات الصين للقضاء على الفيروس إلى تفاقم هذه المشاكل، ثم أدى الغزو الروسى لأوكرانيا إلى ارتفاع أسعار السلع.
واستجابة للتضخم الذى أعقب ذلك، رفعت أربعة أخماس البنوك المركزية فى جميع أنحاء العالم أسعار الفائدة بمعدل 1.5% منذ بداية العام الحالى، ما تسبب فى تراجع أسواق الأسهم.
والخوف من العواقب النهائية لتشديد السياسة النقدية هو السبب الجذرى لمخاوف الركود.
من الواضح أنه يتعين على البنوك المركزية خفض التحفيزات المقدمة للاقتصادات، إذ يعد نمو الأجور فى العالم الغنى قوياً للغاية بالنظر إلى ضعف نمو الإنتاجية، كما أن معدلات التضخم مرتفعة للغاية، لكن الخطر يكمن فى أن المعدلات الأعلى ستُنهى الحفلة تماماً بدلاً من جعلها أقل صخباً.
أشارت المجلة إلى أن التاريخ ليس مشجعاً فى هذا الصدد، فمنذ عام 1955 كانت هناك ثلاث فترات ارتفعت فيها أسعار الفائدة الأمريكية بالقدر الذى كان متوقعاً للعام الحالى، وهذه الفترات كانت فى أعوام 1973 و1979 و1981، وفى كل حالة ظهر الركود فى غضون ستة أشهر.
هل ضرب الركود مرة أخرى؟
لا شك فى أن اقتصادات العالم الغنى، التى تمثل 60% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى، تباطأت منذ الأيام العصيبة فى منتصف عام 2021، عندما رفعت القيود المفروضة للسيطرة على تفشى الوباء بسرعة، وكان التفاؤل بشأن المستقبل ينمو.
ينتج بنك «جولدمان ساكس» «مؤشر النشاط الحالى»، وهو مقياس عالى التردد للصحة الاقتصادية يعتمد على مجموعة من الدراسات الاستقصائية والبيانات؛ حيث تباطأ هذا المقياس بشكل واضح فى الأسابيع الأخيرة.
كذلك، استمد نيكولا وولوشكو، من منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، مقياساً للناتج المحلى الإجمالى الأسبوعى من بيانات بحث «جوجل»، وهذا المقياس وجد فى الأسابيع القليلة الماضية، أنَّ الناتج المحلى الإجمالى فى العالم الغنى بدأ يظهر أضعف كثيراً.
مع ذلك، ما زال من السابق لأوانه إعلان الركود، حتى لو كشف الإحصائيون الأمريكيون، كما يتوقع البعض، فى 28 يوليو عن انكماش أكبر اقتصاد فى العالم للربع السنوى الثانى على التوالى.
يعتبر هذا ركوداً وفقاً لقاعدة واحدة، لكنه لا يجتاز الاختبارات التى تؤكد ذلك، فقد أدت سلسلة من الشذوذ لمرة واحدة إلى انكماش الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى فى الربع الأول، رغم أن الأداء الأساسى للاقتصاد كان قوياً، وسيكون من السابق لأوانه، أيضاً، أن يكون لتشديد الاحتياطى الفيدرالى تأثير.
يتطلع معظم الاقتصاديين إلى المكتب الوطنى الأمريكى للبحوث الاقتصادية لمعرفة ما إذا كان الاقتصاد فى حالة ركود بالفعل، لتنظر لجنة المواعدة لدورة الأعمال فى المؤشرات التى تتجاوز الناتج المحلى الإجمالى لإصدار حكم بهذا الشأن، بما فيها أرقام الوظائف والإنتاج الصناعى.
كذلك، استخدمت «ذا إيكونوميست» نهجاً مشابهاً، مع قليل من التخمين، للحكم على صحة العالم الغنى ككل، لتجد فى النهاية أنه من الصعب القول بأننا بدأنا المعاناة من الركود.
فى ظل تباطؤ النمو بشكل واضح، فإنَّ السؤال الكبير هو إلى أى مدى ستسوء الأمور.
يشير المتفائلون القلائل المتبقون إلى قوة الأسر والشركات، خاصة أن الجمهور أكثر كآبة بشأن الاقتصاد مما كان عليه خلال أعماق كل من الأزمة المالية العالمية والوباء، لكن ربما ما زال لدى الأسر حول العالم الغنى مدخرات زائدة متراكمة خلال الوباء بنحو 3 تريليونات دولار.
فى الولايات المتحدة، وتحديداً فى مارس 2022، وجد أنَّ الأرصدة النقدية للأسر منخفضة الدخل ظلت أعلى بنسبة 70% من عام 2019، بحسب معهد «جى. بى مورجان تشيس»، التابع للمصرف الأمريكى.
علاوة على ذلك، تشير الدراسات الاستقصائية إلى أن الناس يبدون أكثر ثقة بشأن مواردهم المالية الشخصية أكثر من الثقة فى حالة الاقتصاد، فالأسر فى جميع أنحاء الاتحاد الأوروبى على الأرجح إيجابية بشأن مواردها المالية بنسبة الثلث أكثر مما كانت عليه منذ بدء البيانات فى منتصف الثمانينيات.
فى الولايات المتحدة، تظل نسبة الأشخاص الذين يعتقدون أنهم لن يكونوا قادرين على الوفاء بالتزامات الديون خلال الأشهر الثلاثة المقبلة أقل من متوسطها على المدى الطويل، بحسب مسح أجراه الاحتياطى الفيدرالى فى نيويورك. ما زالت أدوات تتبع الإنفاق الاستهلاكى المختلفة تبدو قوية إلى حد ما.
لا شك أن كمية البيانات التى يصادفها الاقتصاديون مفيدة، لكن قد لا يزال هناك درس قديم، وهو أن فترات الركود يصعب اكتشافها فى الوقت الفعلى.
يؤرخ المكتب الوطنى للبحوث الاقتصادية بداية الانكماش الاقتصادى الأمريكى المرتبط بالأزمة المالية العالمية فى ديسمبر 2007، لكنَّ موظفى الاحتياطى الفيدرالى اعتقدوا فى أغسطس 2008 أن الاقتصاد ما زال ينمو بوتيرة سنوية تبلغ حوالى 2%.
وحتى بعد انهيار بنك «ليمان براذرز» فى نهاية هذا العام، قال صندوق النقد الدولى، إنَّ الولايات المتحدة لا تتجه بالضرورة نحو ركود عميق.
من الصعب فهم الاقتصاد بشكل كافٍ فى أفضل الأوقات، فهذه المرة لا يساعد أن يكون اقتصاد ما بعد الاغلاق مليئاً بالمفاجآت، فلم يتنبأ أحد من الناحية العملية بنقص العمالة العام الماضى أو تحول التضخم من سيئ إلى أسوأ فى عام 2022.