بعد يومين من آخر رفع فى أسعار الفائدة، التقى حكام بنك الاحتياطى الفيدرالى السبعة، بعضاً من رجال الأعمال، خصوصاً أن الشكوك ربما تكون تسللت مرة أخرى بينما كان المحافظون يراقبون الأسواق الأسبوعين الماضيين.
معروف أن الاحتياطى الفيدرالى يستهدف كبح التضخم الذى قارب أعلى مستوياته فى أربعة عقود عند 8%، لكن إدراك أنه ما زال بعيداً عن هذا الهدف وأن التشديد النقدى سيستمر.. بالتالى يثير حالة من الفوضى.
تراجعت الأسهم الأمريكية لثلاثة أرباع سنوية متتالية وبشكل حاد مؤخراً، كما أن أسعار السندات تتدهور، الأمر الذى يعكس اضطرابات أسواق الائتمان.
كما أن رفع أسعار الفائدة الأمريكية يؤدى إلى ارتفاع قيمة الدولار، ما يزيد من الضغط التضخمى فى أماكن أخرى، ويدفع البنوك المركزية الأخرى إلى اتباع نهج الاحتياطى الفيدرالى، بغض النظر عن حالة اقتصاداتها.
فى 30 سبتمبر، دعت نائب رئيس الاحتياطى الفيدرالى، لايل برينارد، زملاءها من المحافظين إلى المضى قدماً «بشكل متعمد»، وهى كلمة تدل على الحذر فى حجة الفيدرالى، وقالت أيضاً إنَّ الفيدرالى سيأخذ تأثيره الدولى فى الحسبان.
كان هذا إقراراً بمخاطر النهج الحالى، ولم يكن مؤشراً على أن الاحتياطى الفيدرالى على وشك تغيير مساره، لكن الفيدرالى لا يستطيع ببساطة تجاهل قوة الاقتصاد المحلى، حسبما ذكرت مجلة «ذا إيكونوميست» البريطانية.
وحتى مع الاضطراب المالى، فإنَّ الاقتصاد الأمريكى يعانى ضغوطاً شديدة، فعلى سبيل المثال يوجد فى سوق العمل وظيفتان متاحتان لكل شخص عاطل عن العمل.
كما أن الأجور، التى ارتفعت بنسبة 7% تقريباً مقارنة بالعام السابق، تواصل الارتفاع بأسرع وتيرة لها منذ أوائل الثمانينيات، وفقاً للاحتياطى الفيدرالى فى أتلانتا.
ورغم انخفاض أسعار المنازل الشهرية فى أغسطس، قفزت مبيعات المنازل الجديدة، ما أربك التوقعات، كما بلغت أرباح الشركات أعلى مستوياتها منذ عقود كحصة من الناتج المحلى الإجمالى.
ورغم ارتفاع أسعار الفائدة، تواصل ثقة المستهلك الارتفاع.
هذا يشكل تحدياً خطيراً للاحتياطى الفيدرالي، فكلما كان الاقتصاد أكثر مرونة، كان من الصعب عليه الضغط لكبح التضخم، وبالتالى تظهر المزيد من الزيادات الضخمة فى أسعار الفائدة، ما يزيد من مخاطر حدوث خطأ نقدى وركود فى النهاية.
هناك دائماً فجوة بين التحولات فى السياسة النقدية وتأثيرها على النشاط الحقيقى، فالارتفاعات الأخيرة فى أسعار الفائدة ستؤثر حتماً على الاقتصاد الأمريكى خلال العام المقبل.
يفسر العامل الأكثر وضوحاً أيضاً التضخم الأمريكى، إذ كانت الحكومة أكثر عدوانية من غيرها فى تحفيز الاقتصاد أثناء الوباء، بالتالى بلغ متوسط عجز الميزانية- وهو الفرق بين الإنفاق الحكومى والإيرادات، باستثناء مدفوعات الفائدة- 10.5% فى عامى 2020 و2021، أى أكثر من ثلاثة أضعاف مستوى ما قبل الوباء وأعلى من جميع الدول الغنية الكبيرة الأخرى.
انتهى هذا التحفيز بشكل رسمى منذ بعض الوقت، فقد كانت آخر حزمة مالية كبيرة قصيرة الأجل هى خطة الإنقاذ الأمريكية التى وضعها الرئيس جو بايدن فى مارس من العام الماضى، لكن التحفيز ما زال يشق طريقه عبر النظام فى الواقع.
الأهم من ذلك هو كيف يستمر التحفيز فى تضخيم الميزانيات العمومية لكل من الأفراد والشركات؛ حيث تعيش الأسر على نحو تريليونى دولار من المدخرات الزائدة، بالتالى بدأ التهام هذا المخزون المؤقت الآن، وأصبحت معدلات الادخار منخفضة خلال العام الجارى.
مع ذلك، تمكن المستهلكون من الإنفاق بمعدل لائق بفضل الاحتياطيات حتى مع تآكل دخلهم بسبب التضخم.
كانت قصة مماثلة للشركات، فقد كانت تمتلك سيولة متاحة تقدر بنحو 2.8 تريليون دولار فى بداية الربع الثالث، بانخفاض عن بداية العام لكن بحوالى الربع أكثر مما كان عليه قبل الوباء، كما أنهم استفادوا من الطلب القوى لنقل تكاليف المدخلات المتضخمة للعملاء وحماية هوامشهم.
بلغت أرباح الشركات بعد الضرائب 12% من الناتج المحلى الإجمالى فى الربع الثانى، وهى أعلى نسبة منذ الأربعينيات على الأقل.
جدير بالذكر، أن الشركات تتطلع إلى توظيف العمال وليس فصلهم من العمل طالما أنها تحقق أرباحاً.
لم تشهد الولايات المتحدة إعاقة للنمو، كما حدث فى أوروبا؛ بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة عقب الغزو الروسى لأوكرانيا، بل إنها استفادت، حيث سجلت صادرات البترول الخام والمنتجات البترولية أعلى مستوياتها على الإطلاق.
لقد ساهمت الطفرة فى عائدات تصدير البترول فى تضييق العجز التجارى الأمريكى، الأمر الذى قد ينسجم مع أرقام النمو خلال الفترة المتبقية من العام الجارى.
كان المستهلكون الأمريكيون أقل حماساً تجاه ارتفاع الأسعار فى المضخة، وإذا قارنوا أنفسهم بأقرانهم فى أوروبا، فقد يكونون أكثر تفاؤلاً.
تاريخياً، كانت أسعار الغاز الطبيعى أعلى فى أوروبا منها فى الولايات المتحدة، لكنها أصبحت تقدر بنحو خمسة أضعاف هذه الأيام.
عاجلاً أم آجلاً، سيضغط استمرار ارتفاع أسعار الفائدة على الاقتصاد الأمريكى، وهذه هى نية الاحتياطى الفيدرالى بعد كل شىء، علماً بأن القطاعات الأكثر حساسية لأسعار الفائدة تتضرر بالفعل.
وصلت معدلات الرهون العقارية الثابتة لمدة 30 عاماً إلى 7%، وهى أعلى نسبة منذ أكثر من عقد، ويشير الارتفاع الحاد فى أرصدة بطاقات الائتمان إلى أن الأسر بدأت فى استنفاد مدخراتها، كما أن أسعار الفائدة المرتفعة ستصعب الديون بشكل أكثر، ويبدو أن أرباح الشركات فى طريقها للانخفاض، وهى أحد أسباب التراجع الأخير فى سوق الأسهم.
ومع ذلك، فإن العودة البطيئة والثابتة للحياة الطبيعية بعد الوباء تعمل كعازل ضد هذه الأخطار، فمثلاً سوق العقارات؛ حيث ما زال مخزون المنازل المتاحة للبيع منخفضاً جداً وفقاً للمعايير التاريخية، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن توفير مواد البناء، تماماً مثل السلع الأخرى، وقد تم تقييده بشدة خلال الأعوام القليلة الماضية.
عادةً ما يُتوقع أن تؤدى القفزة فى معدلات الرهن العقارى إلى تباطؤ حاد فى نشاط البناء، لكن عمال البناء يواصلون البناء هذه المرة، فى محاولة للعمل عبر تراكم المنازل غير المكتملة.
فى الوقت نفسه، ارتفع استهلاك السلع خلال الوباء حيث اشترى الناس أرائك جديدة وأجهزة تليفزيون أكبر ودراجات تمارين رياضية لمنازلهم، والآن يعودون إلى الرحلات البحرية والحفلات الموسيقية، هذا التحول مهم لسوق العمل؛ لأن الخدمات تميل إلى أن تكون أكثر كثافة فى العمالة.
حتى لو كان المستهلكون ينفقون أقل بشكل إجمالي، فإنهم ينفقون أكثر على أنواع الأشياء التى تتطلب الكثير من العمال، ما يعزز فرص العمل.
من ناحية، يجب الترحيب بهذه المرونة، وهذا يعنى ضمناً أن الركود، إذا حدث، سيكون معتدلاً على الأرجح، لكن الفيدرالى مصمم على خفض التضخم ويركز على نمو الأجور كبديل لضغوط الأسعار الأساسية، وبالتالى فإن استمرار تشديد سوق العمل يدفع البنك المركزى نحو نوبة أكثر صرامة وأطول من تشديد السياسة النقدية.
وحتى بعد نصف عام من التشديد النقدى وتباطؤ النمو، ما زال الاقتصاد يعانى نقصاً فى العرض ووفرة فى الطلب، خاصة بالنسبة للعمال، بالتالى فى مواجهة عدم التطابق هذا، يكون الاتجاه الوحيد لأسعار الفائدة هو الصعود.