البرازيل وغيانا تستعدان لتحقيق طفرة كبيرة لكن انخفاض الطلب يهدد بقية المنطقة
فى المياه الزرقاء العميقة قبالة سواحل غيانا، تمتص السفن العملاقة البترول من الخزانات الواقعة على عمق 3 كيلومترات تحت السطح، وهذه الآلات تسهم فى تغيير ثروات واحدة من أصغر بلدان أمريكا الجنوبية وأفقرها.
فى 2015، عثر عملاق البترول الأمريكى “إكسون موبيل” على أول احتياطيات مؤكدة من البترول الخام والتى تقدر الآن بنحو 11 مليار برميل، أو حوالى 0.6% من الإجمالى العالمى، فقد بدأ الإنتاج قبل ثلاثة أعوام وهو الآن فى حالة ازدياد.
وبحلول عام 2027، يمكن أن يتجاوز الإنتاج حاجز المليون برميل يوميًا، وهو معدل سيجعل غيانا واحدة من أكبر 20 منتجًا للبترول فى العالم.
هذا منجم يعتبر مذهل بالنسبة لبلد تعداد سكانه يبلغ 800 ألف نسمة فقط، وبلد لم يعد الساسة الأجانب يكافحون لإيجاده على الخريطة، حسبما نقلت مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
وتعمل المكاسب غير المتوقعة فى غيانا على إحياء إنتاج البترول فى أمريكا اللاتينية، حيث يشير تقرير حديث لوكالة الطاقة الدولية إلى أن الإنتاج العالمى سيزداد بمقدار 5.8 مليون من الآن وحتى 2028، وربع العرض الإضافى تقريباً سيأتى من أمريكا اللاتينية.
وبعد التراجع لعقد زمنى، يُتوقع ارتفاع الإنتاج فى أمريكا اللاتينية، ووفقاً لذلك سيزداد الإنتاج لدى كل من البرازيل وغيانا والأرجنتين، فيما سيتراجع فى كل مكان آخر.
وعلى الصعيد العالمى، من المقرر أن يبلغ الطلب على البترول ذروته فى العقود المقبلة، مع انطلاق بدائل الطاقة الأنظف.
وبينما سيظل البترول مطلوبًا طوال فترة تحول الطاقة، ينبغى إنتاجه بتكلفة منخفضة وانبعاثات منخفضة من الكربون ليظل قادرًا على المنافسة، مع أرجحية استفادة البرازيل وغيانا أكثر من معظم المصدرين.
فى غيانا، لا تضيع “إكسون موبيل” وشركاؤها أى وقت لطرحها فى السوق، حيث يقول المتحدث باسم الشركة ميجان ماكدونالد إن “هدف الحكومة، وهدفنا أيضًا، هو تسريع تطوير الموارد هنا فى أسرع وقت ممكن”، وذلك يعود جزئيًا إلى تعظيم الأرباح وسط ارتفاع أسعار البترول.
وعلى النقيض من ذلك، فإن انتقال الطاقة سيكون بمثابة معاقبة لأجزاء أخرى من أمريكا اللاتينية، فالعديد من شركات البترول الحكومية غير فعالة وتنتج براميل قذرة، وأماكن مثل الإكوادور وفنزويلا تعد غير مستعدة على الإطلاق، كما أن الرئيس المكسيكى يهدر المليارات لتدليل شركة البترول الحكومية غير الكفؤة.
ويمكن أن يكون لرفض هذه الدول التكيف مع الأمر عواقب اقتصادية وخيمة، خاصة أن الجغرافيا الجديدة للبترول فى المنطقة تحمل دروسًا للعالم.
وفى البرازيل، يعود هذا الازدهار القادم إلى عقود إلى الوراء، ففى 2006، أجرى المهندسون فى شركة البترول الحكومية البرازيلية “بتروبراس” اكتشاف ضخم، حيث وجد قبالة سواحل ولاية ساو باولو، وعلى بعد أقل من 3 كيلومترات من المياه و5 أخرى من الصخور والملح، واحد من أعظم حقول البترول البحرية فى العالم.
وحولت حقول ما قبل الملح البرازيل من منتج هامشى للبترول إلى ثامن أكبر منتج فى العالم، فالجيولوجيا الخاصة بهم، بجانب استثمارات “بتروبراس” فى أحدث التقنيات البحرية، تجعل الاستخراج فعالًا وصديقًا للبيئة بشكل خاص.
ووفقًا لشرينر باركر، من شركة الاستشارات “ريستارد إنرجى”، يمكن للبرازيل وغيانا إنتاج البترول بشكل مربح بسعر 35 دولار للبرميل، أى أقل من نصف سعر البرميل اليوم.
كمية مكافئ ثانى أكسيد الكربون المنبعثة لكل برميل تبلغ 10 كجم، مقارنة بالمتوسط العالمى البالغ 26 كجم، كما يعتقد باركر أن “البرازيل وغيانا تمتلكان براميل مميزة سيبحث عنها السوق”.
والآن، يراهن لولا دا سيلفا، الذى فاز بالانتخابات الرئاسية فى البرازيل العام الماضى، على جولة أخرى من الأخبار الجيدة، خاصة أن “بتروبراس” تخطط لإنفاق نحو نصف ميزانيتها الاستكشافية البالغة 6 مليارات دولار خلال الخمسة أعوام المقبلة على الهامش الاستوائى، وهى منطقة فى شمال شرق البرازيل.
وتتوقع الحكومة أن تحتوى المنطقة على ما يزيد عن 10 مليارات برميل من البترول القابل للاستخراج، أى ما يعادل تقريبًا حقول ما قبل الملح.
وبالرغم من أن الهيئة التنظيمية البيئية فى البرازيل رفضت مؤخرًا منح الشركة ترخيصًا للتنقيب فى المنطقة، إلا أن “بتروبراس” تقول إنها ستستأنف القرار، فهى تحظى بدعم العديد من الشخصيات السياسية.
ولم تسهم الثروات الطبيعية للبرازيل وحدها فى خلق ثروة “بتروبراس”، بل السياسة السليمة كانت حاسمة أيضًا، تلك الشركة التى أنفقت – وسط إدارة الرئيسة السابقة ديلما روسيف – مليارات الدولارات فى دعم الوقود المحلى، حتى مع انهيار أسعار البترول، ثم تراكمت عليها ديون تزيد عن 100 مليار دولار بحلول 2015، والتى كشف تحقيق أنها جاءت فى صميم مخطط عملاق لشراء الدعم السياسى.
وبعد محاكمة روسيف، بتهمة التلاعب بالحسابات العامة لإخفاء الحجم الحقيقى للأزمة الاقتصادية فى البرازيل، تعلمت الحكومة أن “تعامل بتروبراس باعتبارها شركة وليس وزارة”، كما يقول باركر.
وتعلمت القليل من شركات البترول فى المنطقة دروس التحول الاستثنائى لـ”بتروبراس”، أو حظت بحسن الحظ فى الاستفادة من الاكتشافات الجديدة.
وتمتلك أمريكا اللاتينية ثانى أكبر احتياطيات بترولية مؤكدة فى العالم بعد الشرق الأوسط، ومع ذلك فقد أهدرت شركاتها الحكومية الفرص مرارًا وتكرارًا.
وعلى عكس معظم دول الخليج، فشلت حكومات المنطقة بشكل عام فى إنشاء صناديق ثروة سيادية متطورة لتوجيه عائدات البترول إلى استثمارات طويلة الأجل، وبدلاً من ذلك أصبحوا يعتمدون على البترول كمصدر للنقد الأجنبى وإيرادات المالية.
وربما لا توجد شركة فى العالم مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بانهيار بلدها مثل شركة البترول الوطنية الفنزويلية، التى وفرت 5% من العرض العالمى فى ذروتها خلال 1998، لكن فى ذلك العام انتُخب هوجو شافيز رئيسًا للبلاد.
وفى 2003، بعد إضراب عمال شركة البترول الوطنية الفنزويلية عن العمل، طرد شافيز 18 ألف موظف، أى نصف القوة العاملة، واستبدلهم بالموالين، وطالب لاحقًا شركات البترول الأجنبية بإعادة التفاوض بشأن عقودها لمنح الشركة الفنزويلية سيطرة الأغلبية، وأصبحت بقرة تدر نقود لتمويل البرامج الاجتماعية وشراء الدعم السياسى.
ولقد انخفض إنتاج البترول الفنزويلى الكثيف الثقيل من 3.4 مليون برميل يوميًا فى 1998 إلى 700 ألف برميل حالياً.
ويعتبر الفساد منتشر فى شركة البترول الوطنية الفنزويلية، التى تخضع أيضًا للعقوبات الأمريكية، فبين يناير 2020 ومارس 2023، تلقت مدفوعات بقيمة 4 مليارات دولار فقط، رغم أن صادرات البترول بلغت 25 مليار دولار.
ومع ذلك، يتمسك نيكولاس مادورو، خليفة شافيز المختار بعناية، بالتنبؤات الوردية، فبعد غزو روسيا لأوكرانيا، قال إن شركة البترول الوطنية الفنزويلية يمكن أن “تنتج مليون أو 2 أو 3 ملايين برميل يوميًا إذا لزم الأمر”.
حالة فنزويلا متطرفة، لكن سوء الإدارة وعدم الاستقرار السياسى هما القاعدة فى المنطقة.
وفقًا لفرانسيسكو مونالدى، من جامعة رايس فى هيوستن، إذا تم استغلال كل بترول المنطقة بنفس الخبرة وفى بيئة تنظيمية مماثلة كما فى تكساس، فإن أمريكا اللاتينية ستنتج بترولاً أكثر من الولايات المتحدة، بدلاً من إنتاج نصفها تقريباً.
ولقد أنتجت المكسيك وكولومبيا والإكوادور 3.8% فقط من الناتج العالمى فى 2021، ويُتوقع تقلص الإنتاج بسبب مزيج من العوامل الجيولوجية السيئة أو السياسات السيئة أو كليهما.
انظر إلى المكسيك، مثلاً، حيث تتلاشى حقولها القديمة، فقد بلغ الإنتاج ذروته فى عام 2004 وانخفض إلى النصف تقريبًا منذ ذلك الحين.
ولا ينبغى أن تكون هذه مشكلة، لأن المكسيك لديها اقتصاد كبير ومتنوع، مع صناعة قوية بفضل صفقة التجارة الحرة مع الولايات المتحدة وكندا.
ومع ذلك، فإن الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور مصمم على جعل المكسيك مكتفية ذاتيًا فى مجال الطاقة ويرى شركة البترول الحكومية “بيميكس” كمفتاح لتحقيق ذلك.
ويمكن لاقتصاد المكسيك التخفيف من حدة الضربة الناجمة عن انخفاض إنتاج البترول، علماً بأن البلدان الأخرى أسوأ حالاً، إذ تعتمد حكومة الإكوادور على عائدات البترول أكثر من أى دولة أخرى فى أمريكا اللاتينية، فقد شكلت الإيرادات المالية من التنقيب عن البترول وإنتاجه 24% من إجمالى الإيرادات الحكومية بين عامى 2015 و2019، وفقًا لتحليل جامعة بوسطن، لكن رغم ارتفاع أسعار البترول، يُتوقع انخفاض الإنتاج من 460 ألف برميل يوميًا إلى 370 ألف بحلول 2028.
وتحاول حكومة الإكوادور تنويع مصادر دخلها، فقد وقعت مؤخرًا اتفاقية تجارة حرة مع الصين تأمل فى أن تعزز الصادرات غير البترولية بما يتراوح بين 3 إلى 4 مليارات دولار خلال العقد المقبل، وقد باعت بعض الديون مقابل تعزيز جهود الحفظ، لكنها رغم ذلك لا تزال تعتمد على البترول.
بعض الدول، مثل الأرجنتين، كانت محظوظة، فلم يمنعها التضخم الثلاثى والضوابط المعيقة لرأس المال من زيادة إنتاجها من البترول والغاز، بل أدت العقوبات المفروضة على البترول الروسى، مثلاً، إلى زيادة الإنتاج فى حقل فاكا مويرتا الضخم فى أقصى غرب الأرجنتين، التى تمتلك ثانى أكبر احتياطيات من الغاز الصخرى بالعالم ورابع أكبر احتياطيات من البترول الصخرى، لكنها كافحت لجذب الاستثمار لعقود.