
الاهتمام المتزايد بتبنى أنظمة الذكاء الاصطناعى من شأنه أن يصعد الضغط على شبكات الكهرباء عالمياً، مع إمكانية أن تدخل هذه التكنولوجيا حلبة المنافسة من حيث الاستهلاك الهائل للطاقة الذى تقوده عملية تعدين “بتكوين”.
ولحسن الحظ كشفت لنا أبرز عملة مشفرة طريقة لتخفيف هذا التأثير.
تُظهِر الإيرادات المضاعفة التى حققها مركز البيانات التابع لـ”إنفيديا” خلال الربع الثانى، أن الطلب على التطبيقات التوليدية، مثل “تشات جى بى تى”، لم يصل بعد إلى ذروته.
تعد شركة صناعة الرقائق الأمريكية المزود الرئيسى للشرائح المضغوطة لتلبية هذا النهم على الذكاء الاصطناعى، لكن هذه المعالجات ليست رخيصة ولا هزيلة، إذ أن أحدث طراز أنتجته الشركة، وهو شريحة “جى إتش 200 جريس هوبر سوبر شيب”، تأتى بحجم بطاقة بريدية، وتستهلك طاقة بما يصل إلى ألف وات، ما يعادل سخاناً محمولاً.
رغم أن معظم العملاء سيختار شيئاً أقل فخامة من شريحة “سوبر شيب”، فإنهم يشترونها بكميات كبيرة لأغراض الاتصال بينهم عبر خادم ضخم للذكاء الاصطناعى، ومن هنا بدأ النهم للكهرباء حقاً.
رصدت إحدى الدراسات التى نُشرت العام الماضى استهلاك طاقة تطلبته عملية تدريب نموذج كبير وحيد اللغة يُستخدم للحصول على النصوص بلغات متعددة.
نموذج “بلوم”، من شركة “هوجينج فيس” الناشئة، كان ينفذ 176 مليار معاملة استناداً إلى 1.6 تيرابايت من البيانات.
احتاج الأمر إلى 384 معالجاً رسوميّا من طراز “إنفيديا إيه 100″، وهى وحدات مخصصة لمعالجة الرسومات، على مدار أكثر من 118 يوماً لتجميع هذا الكمّ الهائل من البيانات، ومن ثَم تحليلها، وفقاً لمؤلفى الدراسة.
يُحتمل أن يكون استهلاك الكهرباء اللازم لتشغيل عديد من معالجات الرسومات لفترة طويلة قد تسبب فى انبعاث 24.7 طن مترى (54 ألف رطل) من ثانى أكسيد الكربون، حسب تقديراتهم، لكن التكلفة الحقيقية تتضاعف إلى 50.5 طن عندما تأخذ فى الاعتبار اتصالات الشبكة ووقت خمول النظام بأكمله.
حتى ذلك الحين، فإن تدريب النموذج هو مجرد البداية، وفقاً لأحد تقديرات شركة “أمازون”، التى تدير خوادمها للذكاء الاصطناعى، فإن 90% من تكلفة تشغيل الذكاء الاصطناعى فى المرحلة التالية تتسبب بها عمليات استفسارات المستخدمين من النموذج بغرض الحصول على نتائج بعينها، مثل طرح استفسار على منصة “تشات جى بى تى” للسؤال عن وصفات إعداد كعكة الشوكولاتة.
يتعذر احتساب نفقات الطاقة الناجمة عن تنفيذ البيانات، الذى يسمى الاستدلال، ولكن يُعتقد أنها تقارب 10 أضعاف الإنفاق اللازم فى مرحلة التدريب الأولى، مما يعنى انبعاث 500 طن من ثانى أكسيد الكربون.
قد تتسبب عملية استعلام واحدة باستخدام الذكاء الاصطناعى التوليدى فى إحداث بصمة كربونية أكبر بمقدار أربع مرات من البحث باستخدام “جوجل”، وفقاً لأحد التقديرات.
اعتمدت عملية معالجة البيانات بهذه القوة المفرطة على نموذج التصميم الذى قامت عليه بتكوين، وهو ما يفسر نشر هذه الموجة من أشباه الموصلات والخوادم حول العالم أملاً فى تعدين هذا الذهب الرقمى.
تقدر دراسة جارية فى جامعة كمبريدج أن بتكوين تتسبب فى انبعاث 72.5 مليون طن من ثانى أكسيد الكربون، ويمكن أن يتقلص هذا الرقم بمقدار 3 ملايين طن إذا شغلت جميع منصات تعدين بتكوين باستخدام الطاقة الكهرومائية.
بالمقارنة مع الإهدار الناجم عن تعدين العملة المشفرة، يبدو أن انبعاث 500 طن من ثانى أكسيد الكربون من عملية واحدة من التدريب والنشر لا شىء.
مع ذلك لايزال هذا يعادل القيادة بسيارة عاملة بالبنزين لمسافة مليون ميل، أو 500 رحلة من نيويورك إلى فرانكفورت.
كل ذلك ولانزال فى مرحلة مبكرة، فما لا يقل عن 12 شركة تكنولوجيا كبيرة تمضى بخطى متسارعة نحو بناء ونشر منتجات الذكاء الاصطناعى التوليدية، بما فى ذلك “أمازون” و”ألفابت” و”مايكروسوفت” و”أوبن إيه آى” و”ميتا بلاتفورمز” و”بايدو” و”تينسنت هولدينجز”، و”على بابا”.
لأنها جميعاً تتنافس فى سباق ليتفوق بعضها على بعض، فلن تتوقف عند حد تدريب النماذج، بل ستستمر فى شراء معالجات متعطشة للطاقة من أجل تحليل كميات هائلة متزايدة من البيانات.
وبمجرد الانتهاء من ذلك، ستتنافس لتقديم النتائج للمستهلكين فى شكل مقالات جامعية ومقاطع فيديو مفبركة وإصدارات اصطناعية من موسيقى “بينك فلويد”.
مما يزيد الطين بلة حقيقة أن معظم تدريب الذكاء الاصطناعى فى الوقت الحالى مدعوم بالوقود الأحفورى، وقد توسعت مزارع الخوادم هذه بسرعة فى المواقع الحالية، وغالباً ما تكون على بعد آلاف الأميال من السدود الكهرومائية أو مصفوفات الطاقة الشمسية.
لأن زمن انتقال الشبكة يمثل مشكلة عند الاستجابة لطلبات الإنترنت، فلابد أن تكون قريبة من المستخدم النهائى، ولا تبعد كل آلاف الأميال هذه.
لكن بتكوين أفسحت بالفعل مجالاً حذت حذوه صناعة الذكاء الاصطناعى، فقد أصبحت المناطق المناخية الباردة التى تعتمد على قدر كبير من الطاقة المتجددة مكاناً مثالياً للتخلص من منصات التشفير المتعطش للكهرباء، بفضل هواء القطب الشمالى والطاقة الحرارية الوفيرة فى أيسلندا مما يجعل البلاد خياراً مثالياً لهذا الغرض.
قد تجد الصين أيضاً استخداماً جديداً لعديد من محطات الطاقة الكهرومائية التى جذبت منصات التعدين، لكنها خسرت أعمالها بعد أن شنت بكين حملة قمع ضد العملات الرقمية.
لن يتمكن مزودو الذكاء الاصطناعى الأجانب من الاستفادة بطبيعة الحال، لكن عمالقة التكنولوجيا الصينيين يعرفون أن لديهم مثل هذا المورد قريباً مع ارتفاع احتياجاتهم من الطاقة.
يوجد توجُّه متزايد آخر لاستبدال الذكاء الاصطناعى ببتكوين فى محطات الخوادم هذه.
رغم أن العملة المشفرة استقطبت عدداً هائلاً من المضاربين واستثمارات بمليارات الدولارات، فإنها لاتزال عاجزة عن إضافة قيمة كبيرة إلى العالم.
هذه المشكلة ليست فى الذكاء الاصطناعى التوليدى، وليُسأل فى ذلك “تشات جى بى تى”.
بقلم: تيم كولبان
كاتب عمود رأى لدى “بلومبرج”
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”