يذكر وزير الطاقة السعودي عبد العزيز بن سلمان، العالم بشكل روتيني بأن تحالف الدول المصدرة للبترول وحلفائها “أوبك+” يهدف بشكل أساسي للحفاظ على استقرار سوق البترول.
وكرر ذلك مرة أخرى الشهر الماضي في مؤتمر البترول العالمي، الذي عقد في كالجاري بكندا، ودافع عن تخفيضات إنتاج البترول الخام المستمرة التي يجريها تحالف “أوبك+”، وهي الأعمق منذ أزمة كوفيد، باعتبارها “استباقية ووقائية واحترازية” ضد الطلب العالمي على البترول الذي يقل عن التوقعات.
وبعبارة أخرى، يعمل تحالف المنتجين بشكل مسبق لتجنب احتمال أن يؤدي تباطؤ الطلب إلى ارتفاع مخزونات البترول وتراجع الأسعار.
مع ذلك، يبدو أن هذا الرأي يتجاهل ارتفاع الأسعار والتقلبات الصعودية التي أحدثتها تخفيضات إنتاج “أوبك+” بسبب المخاوف من أن الإمدادات قد تكون أقل بكثير من الطلب.
يمكن أن ينتشر التأثير التضخمي لارتفاع أسعار البترول إلى جميع أجزاء الاقتصاد العالمي ويعوق النمو، وقد تكون هذه التأثيرات حادة بشكل خاص في آسيا الناشئة، حيث عاد نمو الطلب على الطاقة إلى مستويات ما قبل الوباء.
وتعتمد المنطقة بشكل كبير على واردات البترول، ويعني ضعف العملات المحلية مقابل الدولار الأمريكي أن الأسعار المرتفعة أصبحت تستنزف احتياطيات النقد الأجنبي بشكل أكبر، حسبما نقلته مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
تعد آسيا أكبر وأسرع سوق للبترول من السعودية ونظيراتها في الشرق الأوسط في طليعة الجولة الحالية من قيود الإنتاج، فيما تعد الصين والهند أكبر وثاني أكبر مشترين صافين للبترول الخام في العالم.
فقد ازدادت شهية كلاهما حتى الآن هذا العام، لكن سيكون من الخطأ افتراض أن طلبيهما سيظل مرنًا بغض النظر عن ارتفاع الأسعار.
في الواقع، تدفع أسعار البترول المرتفعة باستمرار ،الحكومات الآسيوية بالفعل إلى التركيز بشكل أكبر على بدائل الطاقة، بدءاً من الوقود الحيوي وغيره من مصادر الطاقة المتجددة وحتى الطاقة النووية والفحم.
يبلغ إجمالي تخفيضات الإنتاج التي بدأتها “أوبك+” في مايو، والتي توسعت في يوليو، الآن قرابة الـ3 ملايين برميل يوميًا.
تتمتع السعودية بنفوذ كبير على أسعار البترول ليس فقط بحكم كونها القائد الفعلي لـ”أوبك+”، لكن أيضًا لأنها خفضت الإنتاج من جانب واحد بمقدار مليون برميل إضافية يوميًا منذ يوليو بعد تعهدها في البداية بتخفيض قدره 500 ألف برميل بالاشتراك مع منتجين آخرين في مايو.
بعد أيام من تصريحات وزير الطاقة في كالجاري، أعلنت روسيا حظرا لأجل غير مسمى على صادرات الديزل، وهو منتج مكرر يستخدم في وسائل النقل الشخصية والعامة والإنتاج الصناعي والزراعة.
وتسببت خطوة موسكو، التي تهدف إلى معالجة الأسعار المرتفعة في الداخل، في حرمان السوق العالمية من حوالي مليون برميل من الإمدادات اليومية من الوقود الذي كان يعاني بالفعل من نقص بسبب تخفيضات “أوبك+”.
كما أن إمدادات البترول والغاز الروسية لاتزال ضعيفة وسط العقوبات الغربية والتسليح المتبادل في مجال الطاقة الناجم عن حرب أوكرانيا.
تعاني السوق أيضًا من نقاط التوتر الجيوسياسية في الشرق الأوسط الغني بالبترول.
فاندلاع الصراع بين إسرائيل وحماس لم يؤثر على إمدادات البترول لكنه يهدد الدول المجاورة المنتجة للبترول والغاز.
وهذه المخاطر تزيد من أهمية حفاظ الدول المستهلكة الكبرى على مستوى جيد من المخزونات، لكن تخفيضات “أوبك+” العميقة تؤدي في الواقع إلى تآكل تلك المخزونات.
من المفهوم أن منتجي “أوبك+” حريصون على حماية اقتصاداتهم من تأثير وصول سعر البترول الخام إلى أقل من 70 دولارا، لأن ذلك يعني انخفاضًا بنسبة 30% أو أكثر في عائدات البترول مقارنة بالعام الماضى، لكن مع اقتراب سعر البرميل من 100 دولار عدة مرات في الأسابيع الأخيرة، فإن الإبقاء على تخفيضات الإنتاج الحالية يبدو قصر نظر.
وحتى لو بدا المستهلكون معتادين على ارتفاع معدلات التضخم، فإنهم ليسوا محصنين ضد ضغوط التكلفة المستمرة، رغم أن بعض التأثيرات قد لا تظهر إلا تدريجياً.
وهذا يرجع جزئيًا إلى احتمالية وجود بعض الطلب المكبوت المتبقي بعد أعوام من قيود كورونا التي لا تزال قيد التصفية، ويمكن أن يفاقم تراكم مدخرات الأسر هذا التأثير، خاصة في قطاعي السفر والخدمات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تأثير ارتفاع تكاليف الاقتراض مع احتفاظ البنوك المركزية بأسعار فائدة أعلى لفترة أطول قد ينتشر تدريجيًا عبر قطاع الشركات وأسواق العمل، والإنفاق الاستهلاكي أيضًا.
في الواقع، هناك دلائل فعلية على أن نمو الطلب الآسيوي على البترول بدأ يتراجع، فقد انخفضت واردات البترول الخام إلى المنطقة في سبتمبر للشهر الثاني على التوالي، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الصيانة الموسمية في مصافي التكرير، وارتفاع الأسعار أيضًا.
التزمت الولايات المتحدة وكذلك وكالة الطاقة الدولية، التي تمثل العالم المتقدم، الصمت بشكل واضح وسط الارتفاع الأخير في الأسعار، عكس العام الماضي عندما أطلقت الدول المتقدمة كمية غير مسبوقة قدرها 240 مليون برميل من المخزونات الاستراتيجية لتهدئة أسعار البترول في أعقاب الغزو الأوكراني، وهم لا يفضلون الآن التعمق أكثر في مخزوناتهم المستنفدة بالفعل.
يواصل إنتاج البترول الصخري في الولايات المتحدة ارتفاعه، لكن القطاع ليس في وضع يسمح له بتعويض التخفيضات الكبيرة التي تنفذها “أوبك+”.
باختصار، ليس هناك متنفس سوى اتخاذ “أوبك+” قرارًا بفتح حنفياتها قليلاً، ومعرفة الموعد الأنسب لفعل ذلك لا يقل أهمية عن التصرف بشكل استباقي لمنع انهيار الأسعار، ولاشك أن ارتفاع أسعار البترول يضر بالمستهلكين بقدر ما يضر المنتجين عند انخفاضها.
يقول وزير الطاقة السعودي إن “أوبك+” مثل البنك المركزي لعالم البترول، لكن الفرق حاسم بينهما، ولا يكاد يكون هناك أي تأثير لتأخر السياسات في مجال البترول، إذ تستجيب الأسعار بسرعة كبيرة لاختلال التوازن بين العرض والطلب، وكذلك يجب على “أوبك+”.