من المحتمل أن تحافظ البنوك المركزية على أسعار الفائدة المرتفعة لفترة أطول فى ظل صراعها لكبح ارتفاع التضخم المزمن فى كثير من البلدان – وتتسبب بذلك فى تباطؤ اقتصاداتها.
فلم يحدث أن واجهت الأسواق المالية العالمية مثل هذه البيئة منذ جيل كامل، وهذا يعنى أنه يتعين على جهات الرقابة المالية شحذ أدواتها التحليلية واستجاباتها التنظيمية للتصدى للتهديدات الناشئة.
فالمخاطر الجديدة التى أخذت تتجمع فى النظام المصرفى وتتجاوزه تعنى أن الوقت قد حان لمضاعفة الجهود مرة أخرى لتحديد جهات الإقراض الأضعف.
ومن ثم عززنا أدواتنا لاختبار القدرة على تحمل الضغوط من أجل التركيز على المخاطر الناجمة عن تصاعد أسعار الفائدة وتضمينها أنواع الضغوط التمويلية التى أخلت بتوازن بعض البنوك فى شهر مارس.
وطورنا كذلك أداة رقابية جديدة لرصد أوجه الهشاشة المصرفية الناشئة باستخدام تنبؤات المحللين ومقاييس أداء البنوك التقليدية.
والغرض من هذه الأدوات الرقابية، التى تستند إلى البيانات العامة، هو تكملة اختبارات تحمل الضغوط التى تجريها السلطات الرقابية الوطنية، وتلك التى تقوم بها فرق صندوق النقد الدولى والبنك الدولى فى إطار برامج تقييم القطاع المالي، وتستخدم فيها بيانات رقابية سرية أكثر تفصيلا.
ويمثل تزايد أسعار الفائدة مصدر خطر على البنوك، وإن كان كثير منها يستفيد من تحصيل أسعار فائدة مرتفعة من المقترضين مع الحفاظ على انخفاض أسعار الفائدة على الودائع.
وقد تزداد كذلك خسائر القروض مع ارتفاع تكاليف الاقتراض على المستهلكين ومؤسسات الأعمال، على السواء، وخاصة فى حالة فقدان الوظائف أو إيرادات الأعمال. وبالإضافة إلى القروض، تستثمر البنوك كذلك فى السندات والأوراق المالية الأخرى المرتبطة بالدين، التى تخسر من قيمتها عندما ترتفع أسعار الفائدة.
وقد تضطر البنوك إلى بيعها بخسارة إذا تعرضت لسحوبات مفاجئة للودائع أو غير ذلك من ضغوط التمويل. وكان فشل بنك سيليكون فالى مثالا صارخا لهذا التيار من خسائر السندات.
يبدو النظام المصرفى متمتعا بالصلابة بوجه عام، وفقا للاختبار الجديد لتحمل الضغوط فى النظام المصرفى العالمى الذى أجريناه على 900 جهة إقراض تقريبا فى 29 بلدا، ونستعرضه فى أحد فصول إصدارنا الأخير من “تقرير الاستقرار المالى العالمي”.
ومن خلال الاختبار الذى أجريناه، الذى يوضح أداء المقرضين فى ظل السيناريو الأساسى لتوقعاتنا فى أحدث عدد من تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي” الصادر عن صندوق النقد الدولى أمكن تحديد 30 مجموعة مصرفية تعانى من ضعف مستويات رأس المال، وتشكل مجتمعة 3% من الأصول المصرفية العالمية.
ولكن عند التعرض لركود تضخمى حاد، أى ارتفاع التضخم مع انكماش اقتصادي عالمي بنسبة 2%، واقترانه بزيادة ارتفاع أسعار فائدة البنوك المركزية، ستكون الخسائر أكبر بكثير.
وسيرتفع عدد المؤسسات الضعيفة إلى 153 مؤسسة تمثل أكثر من ثُلث الأصول المصرفية العالمية. وباستثناء الصين، نجد أن الاقتصادات المتقدمة تضم عددا أكبر بكثير من البنوك الضعيفة مقارنة باقتصادات الأسواق الصاعدة.
سيناريو الركود التضخمي الحاد ، التضخم المرتفع والنمو البطيء مع أسعار الفائدة المرتفعة، قد تؤدى إلى عدم كفاية احتياطيات رأس المال الوقائى فى كثير من البنوك
وتعانى هذه المجموعة من البنوك الضعيفة من تصاعد أسعار الفائدة وتزايد حالات التوقف عن سداد القروض، واستمرار التراجع فى أسعار الأوراق المالية.
وتوضح التحليلات الإضافية أن خسائر بيع الأوراق المالية فى ظل سيناريوهات السحب الجماعى للودائع لا تكون مؤلمة بنفس القدر عندما يكون بوسع البنوك الاستفادة من تسهيلات البنوك المركزية للإقراض، مثل نافذة الخصم فى نظام الاحتياطى الفيدرالي.
الترتيبات المساندة ضرورية وتسهيلات البنوك المركزية مثل نافذة الخصم فى نظام الاحتياطى الفيدرالى يمكن أن تساعد البنوك على تجنب خسائر رأس المال الفادحة.
ولتكملة اختبار تحمل الضغوط فى النظام المصرفى العالمي، تتضمن أداتنا الرقابية الجديدة مقاييس رقابية تقليدية، مثل نسبة رأس المال إلى الأصول، إلى جانب مؤشرات السوق، مثل نسبة سعر السوق لحصص رأس المال المصرفى إلى القيمة الدفترية.
وقد أثبتت هذه المقاييس تاريخيا أنها مؤشرات تنبؤية مهمة لفقدان الثقة أثناء أحداث الضغط التى يتعرض لها النظام المصرفي. فهى تلفت الانتباه للبنوك التى يتعين خضوعها لمراجعات إضافية إذا اتضح أنها تحقق قيما شاذة فى ثلاثة أو أكثر من مقاييس المخاطر الخمسة التى نأخذها فى الاعتبار، وهى كفاية رأس المال، وجودة الأصول، والأرباح، والسيولة، وتقييم السوق.
وخلال فترات الضغط، قد تبدو بنوك كثيرة معرضة للمخاطر، بينما لا يتعرض سوى القليل منها فعليا لاضطرابات كبيرة. ويبين الاختبار الرجعى لهذه الأداة أن هناك طفرة حدثت فى أعداد المؤسسات المحتمل تعرضها للمخاطر عند بدء الجائحة، بالإضافة إلى حدوث زيادة مستمرة فى تلك الأعداد فى أواخر 2022 مع بدء الشعور بالتأثير الموجع لارتفاع أسعار الفائدة. وقد شملت هذه الزيادة الأخيرة البنوك الأربعة التى تعرضت للفشل أو تم الاستحواذ عليها فى شهر مارس.
واستنادا إلى البيانات السوقية الحالية ومتوسط التنبؤات المجمعة للمحللين، تفيد هذه المؤشرات بأن هناك مجموعة كبيرة من البنوك الأصغر فى الولايات المتحدة معرضة للخطر، وأن القلق ينتاب بعض جهات الإقراض فى آسيا، بما فيها الصين، وأوروبا مع استمرار ضغوط السيولة والأرباح.
بنوك معرضة للمخاطر، هي أداة رقابية جديدة كان من الممكن أن تحدد العديد من البنوك المعرضة للمخاطر فى مارس 2023، بما فيها البنوك التى فشلت أو تم الاستحواذ عليها.
وتؤكد ضخامة هذه المجموعة من البنوك الضعيفة التى حددها الاختباران ضرورة اتخاذ تدابير جديدة على مستوى السياسات فى القطاع المصرفي:
ينبغى أن تتضمن اختبارات تحمل الضغوط التى تجريها الهيئات الرقابية تحليلا قائما على السوق، يشمل جهات إقراض أصغر، وأن تختبر قدرة البنوك على تحمل الضغوط فى سيناريوهات معاكسة أكثر حدة لكنها معقولة.
وينبغى أن تكون هيئات الرقابة المصرفية استباقية وأن تكون مستعدة وراغبة فى معالجة أوجه الضعف التى يتم تحديدها. فقد خلص برنامج تقييم القطاع المالى إلى أن أكثر من نصف اقتصادات العالم ليس لديها هيئات مستقلة للرقابة المصرفية تتمتع بالموارد الكافية.
ويتعين تشديد المعايير الدولية لضمان السيطرة على مخاطر السيولة وأسعار الفائدة فى البنوك. فمن الملاحظ أن خُمس الاقتصادات على الأقل تستعين بممارسات رقابية وتنظيمية ضعيفة فى مراقبة هذه المخاطر ومعالجتها، وقد اتضحت أهمية هذه المسألة فى أعقاب الاضطراب المصرفى فى شهر مارس.
وسوف تزداد صلابة البنوك إذا كانت مؤهلة بصورة أفضل للاستفادة من تسهيلات البنوك المركزية للإقراض. وينبغى أن تقوم البنوك دوريا باختبار قدرتها على الاستفادة من تلك التسهيلات مع قيام الهيئات الرقابية بتقييم مدى سهولة استفادة جهات الإقراض الضعيفة من موارد المساعدة الطارئة.
والآن مع انحسار الضغوط المصرفية، يتعين على المؤسسات المصرفية وهيئاتها الرقابية والتنظيمية استغلال هذا الوقت فى تعزيز صلابتها. وينبغى أن تتأهب لاحتمال عودة هذه المخاطر إلى الظهور، نظرا لأن أسعار الفائدة قد تظل مرتفعة لفترة أطول مقارنة بسعرها الحالى فى السوق.
كاتب المقال: تشارلز كوهين، مستشارا فى إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية بصندوق النقد
سروبونا ميترا، نائب رئيس قسم بإدارة الأسواق النقدية والرأسمالية بصندوق النقد
فابيو ناتالوتشي، نائب مدير في إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية بصندوق النقد
المصدر: صندوق النقد الدولى







