تعتبر صناعة الدواء الوطنية أحد أهم الركائز للنهوض بالقطاع الصحى فى مصر، فى ضوء ما تلعبه تلك الصناعة من دور فى ضمان صحة وسلامة المواطن المصرى وتأثيره المباشر على الأمن القومي.
وكذلك تمثل تلك الصناعة فرص استثمارية واعدة تستطيع النهوض بالاقتصاد القومى وزيادة الصادرات السلعية، نظراً لما تمتلكه مصر من قدرات صناعية هائلة ممثلة فى أكثر من 170 مصنع مرخص وأكثر من 700 خط إنتاج.
وعلى الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية الهائلة التى واجهتها مصر فى العقدين الماضيين، لا تزال مصر أكبر منتج ومستهلك للأدوية فى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بأكملها بقيمة سوقية بلغت 56.6 مليار جنيه مصرى (2.9 مليار دولار أمريكي) فى عام 2022 لمبيعات الأدوية؛ مما يجعلها أحد أهم الأسواق فى المنطقة جذبا للاستثمارات الأجنبية المباشرة فى هذا المجال خلال المرحلة المقبلة، شريطة توفير المناخ الاستثمارى الملائم لتلك الصناعة نظراً لما تمتلكه من طبيعة خاصة وأهمية استراتيجية.
ويستعرض المقال الماثل أبرز التحديات التى تواجه صناعة الدواء المصرية والحلول المقترحة للنهوض بهذا القطاع.
وتواجه صناعة الأدوية فى مصر بشكل عام تحديات تنظيمية وتطويرية وتصنيعية، بدءا من صعوبة إجراءات تسجيل المنتجات، بما فى ذلك طول الإجراءات الخاصة بالموافقات الحكومية الخاصة بترخيص المصانع وإجراءات الحصول على ترخيص التسويق للمنتجات المصنعة، وارتفاع التكلفة النقدية لعملية تسجيل المنتجات، وخضوع تلك المنتجات للتسعير الجبرى بطرق تقليدية لا تتواكب مع ديناميكية السوق المصري، والفجوة الفاصلة بين الأوساط الأكاديمية والصناعة لأن معظم الشؤون التنظيمية الحكومية تابعة للأوساط الأكاديمية ولا ترتبط مباشرة بالصناعة، وعدم كفاية حماية الملكية الفكرية للمنتجات المرخصة، وصولاً لضعف الرقابة على الإسواق ووجود منتجات طبية مغشوشة داخل السوق المصري.
مصر تستورد 90% من المواد الخام ومدخلات الإنتاج
تستورد مصر ما يقرب من 90% من المواد الخام المستخدمة فى الإنتاج المحلي، بسبب ضعف البنية التحتية للإنتاج الصناعى لتلك المواد وارتفاع تكلفة إنشاء تلك المصانع على القطاع الخاص وصعوبة الوصول إلى تكنولوجيا التصنيع لأسباب سياسية، ولذلك، وفى بعض الأحيان لأسباب غير متوقعة، قد يحدث نقص فى إمدادات المواد الخام ويؤدى إلى اختفاء بعض الأدوية الأساسية من السوق.
لذلك نرى أنه من الملائم أن تقتحم الحكومة المصرية تلك الصناعة من خلال إنشاء مصانع لتوطين صناعة المواد الخام الفعالة وغير الفعالة، وذلك لضمان استدامة دورة الإنتاج الوطنية ووصول تلك المواد للمصانع المصرية بشكل مستمر.
تنافس المصانع المصرية على المنتجات التقليدية
تركز الصناعات الدوائية فى مصر بشكل أساسى على الأدوية الجنيسة والأدوية التى لا تستلزم وصفة طبية (OTC)، ونادراً ما يتم تصنيع أدوية مبتكرة أو حديثة داخل المصانع المصرية، مما يجعل أن معظم المصانع المصرية تتنافس على مجموعة منتجات متشابهة، والتى تمثل قطاعات سوقية ضيقة نسبياً، بعيداً عن الأدوية الحديثة التى تمثل الجزء الأكبر من الفاتورة الاستيرادية المصرية من الأدوية، نظراً لما يحتاجه إنتاج تلك الأدوية من تقنيات متقدمة لعميات التصنيع واستراتيجيات التحكم والاختبار والمعدات الحديثة.
وقد قامت الدولة المصرية بالعديد من الخطوات فى هذا المجال مثل إنشاء مدينة الدواء المصرية (جيبتو فارما)، والتى تعد طفرة نوعية لصناعة الدواء المصرية لما تمتلكه من نظم إنتاج حديثة، وكذا تدشين مصنع سيديكو للأورام ومصنع ايبيكو 3 بهدف امتلاك القدرات الصناعية لأحدث الأدوية التى يحتاج لها السوق المصرى بشكل ملح.
وعلى الرغم من الجهود المصرية فى هذا المجال، نرى أنه من الملائم العمل على توفير حوافز استثمارية وإعفاءات ضريبية للشركات متعددة الجنسيات التى تمتلك التكنولوجيا وحقوق الملكية الفكرية لمعظم المنتجات الطبية المتطورة حال تصنيع منتجاتها فى أحد المصانع المصرية، وكذلك الاعتماد على نقل التكنولوجيا من النمور الأسيوية الصاعدة بقوة فى هذا المجال وتعطشها لدخول السوق الإفريقى من خلال البوابة المصرية.
ارتفاع تكلفة التمويل الخاصة بالأنشطة الصناعية
تعتبر صناعة الدواء من الصناعات ذات الطبيعة الخاصة نظراً لاختلاف إجراءاتها التنظيمية والتطويرية للوصول إلى الأسواق، حيث تخضع صناعة الأدوية للعديد من عمليات البحث والتطوير، ثم التقييم من هيئة الدواء المصرية للتأكد من جودة وفاعلية ومأمونية المنتجات قبل نزولها للأسواق، مما يتطلب إنفاق مبالغ طائلة قبل عملية تحصيل الإيرادات، بالإضافة إلى حاجة المصانع لتوفير حد ائتمانى سواء لشركات التوزيع أو للمؤسسات بنظام المناقصات، مما يزيد حاجة صناعة الدواء زيادة عن غيرها من مختلف الصناعات لحلول تمويلية منخفضة التكلفة لتوفير التمويلات المطلوبة للعمليات السابقة.
وعليه، نرى ملائمة عمل مبادرات تمويلية بشكل خاص لمصنعين الأدوية لدعم الخطط التوسعية لتلك الشركات، وإعطاء مميزات فى طرق السداد فيما يخص تمويل شراء خطوط إنتاج يحتاجها السوق المصري، وكذا توفير مبادرات تمويل للشركات الناشئة فيما يخص مصروفات البحث والتطوير والتسجيل بفترات سماح تتماشى مع فترات وصول المنتجات للأسواق.
حماية الملكية الفكرية
يدير مكتب براءات الاختراع المصرى التابع لأكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا حقوق الملكية الفكرية (IPRs) فى مصر، بما فى ذلك براءات الاختراع والعلامات التجارية وحقوق التأليف والنشر وفقا للقانون المصرى رقم 82 لسنة 2002 بشأن حماية الملكية الفكرية، والذى ينص على أن تكون مدة حماية براءة الاختراع 20 عاما من تاريخ إيداع طلب براءة الاختراع المصري.
ولكن لا تزال هناك انتهاكات لبراءات الاختراع فى صناعة الأدوية، الناتجة عن الشركات الناشئة وشركات الأدوية الصغيرة؛ لذلك كان تحديث هذا التشريع أمر لابد منه.
وعلى الرغم من إطلاق مصرللاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية (2022 – 2027)، وإصدار القانون رقم (163) لسنة 2023 بشأن إنشاء الجهاز المصرى للملكية الفكرية، إلا أنه لابد من اتخاذ المزيد من الخطوات بشكل سريع فى هذا الملف، من حيث إصدار اللائحة التنفيذية ووضع خطط إصلاح بمدد زمنية واضحة.
الدراسات الإكلينيكية
تعتبر الدراسات الإكلينيكية جزءا لا يتجزأ من عملية البحث والتطوير الخاصة بصناعة الدواء، حيث يتم إجراء تلك الدراسات على المتطوعين طبقاً للقواعد والإرشادات العالمية لسلامة المبحوثين للتأكد من فاعلية ومأمونية الأدوية قبل تداولها بالأسواق.
وتعمل العديد من الدول لتهيئة المناخ التشريعى لهذا النوع من الدراسات نظراً للعائد الصحى والاقتصادى الناتج عنه، حيث أن إجراء الدراسات الإكلينيكية فى البلد المستضيف يتيح للمرضى المصابين بالأمراض الأقل شيوعاً بالاستفادة من أحدث الأدوية العالمية ذات التكلفة المرتفعة دون تكلفة والحصول على متابعة طبية متميزة ضمن البروتوكول العلمى للدراسة، كما أن إجراء الدراسة داخل البلد المستضيف يتيح لها أن تكون ضمن المرحلة الأولى لتسويق العقار بعد الانتهاء من البحث والتطوير، وكذلك أن هذا النوع من الدراسات يعد نوع من أنواع الاستثمار المدر للعملة الاجنبية.
وفى ضوء ما سبق، أصدرت مصر فى عام 2021 قانون الدراسات الإكلينيكية لتوفير الإطار التنظيمى لهذه الدراسات، وكذا تم إصدار اللائحة التنفيذية للقانون، إلا أنه على الرغم من ذلك يوجد عزوف من الشركات العالمية من دخول هذا المجال فى مصر، نظراً لغياب الشفافية فى توقيتات الحصول على الموافقة على إجراء هذا النوع من الدراسات فى مصر من عدمه، وكذا غياب الشفافية فيما يخص أسباب الرفض فى بعض الحالات.
لذلك نرى ضرورة سرعة تشكيل المجلس الأعلى للدراسات الإكلينيكية طبقاً لنصوص القانون سالف الذكر، وكذا تفعيل مدة الـ60 يوما للحصول على جميع الموافقات، مع إصدار أسباب واضحة فى حالة رفض أى دراسة.
نظم تسعير الأدوية
تعد الأدوية أحد السلع القليلة المسعرة جبرياً فى مصر نظراً لأهميتها الاستراتيجية وتأثيرها المباشر على صحة المواطنين، ويتم هذا التسعير من خلال اللجان المختصة بهيئة الدواء المصرية بهدف تحقيق توازن بين تكلفة صناعة الدواء وربحية المصنع، وكذا القدرة الشرائية للمريض المصري، وتحدد اللجنة هيكل أسعار المنتجات من حيث سعر بيع الصيدلية للمرضى، بالإضافة إلى تحديد النسبة المئوية لربح الصيدلى وربح الموزع وربح الشركة المصنعة / المستورد، فى حالات معينة يتم تحديد النسبة المئوية لربح الصيدلى والموزع بحد معين، وعادة ما تكون النسبة المئوية لربح الصيدلى ثلاثة أضعاف ربح الموزع.
والقرار الوزارى الحالى الذى يوجه عملية التسعير فى قرار وزير الصحة رقم 499 الصادر فى عام 2012، ومع ذلك، فإن اللجنة لها الحق الكامل فى تقرير ما هو مناسب لها مع التبرير وبعد موافقة رئيس هيئة الدواء المصرية، يصبح الأمر كما لو كان قرارا وزاريا منفصلا لهذا المنتج.
يتم تنفيذ العديد من سياسات التسعير للمنتجات المبتكرة بما فى ذلك التسعير المرجعى الخارجى (ERP) من سلة محددة مسبقا من البلدان. ومع ذلك، فإن اللجنة لها الحق الكامل فى الإشارة إلى أى دولة أخرى خارج السلة، ويمكن استخدام التسعير المرجعى الداخلى أيضا فى حالة الإشارة إلى ذات المنتج متداول بالفعل فى مصر أو منتج مبتكر آخر له نفس المؤشر العلاجي.
ولا تراعى النظم التسعيرية الحالية للأدوية التغييرات العنيفة لسعر الصرف والتضخم فى مصر، وكذا لا تراعى اختلاف تكاليف الأنتاج من حيث الجودة فيما يخص المواد الخام الفعالة وغير الفعالة، كما تعطى ميزة سعرية للمنتج الأصلى (brand) حتى بعد سقوط عنه فترة حماية الملكية الفكرية.
لذلك نرى ملائمة تحديث القواعد والإجراءات الخاصة بالتسعير الجبرى للأدوية وتبنى نظم أكثر شفافية ومرونة فى التسعير، بهدف تشجيع الابتكار وزيادة جاذبية الاستثمار فى هذا القطاع الواعد.
بقلم: الدكتور محمد المغازى – مدير إدارة السياسات العامة للرعاية الصحية والدواء فى محرم وشركاه