أصبحت سنغافورة مركزًا رئيسا لشركات التكنولوجيا من الشرق والغرب، وسط تمتعها بحكومة مستقرة، ووفرة من المهندسين الموهوبين والبنية التحتية التكنولوجية الحديثة، وتوفر قوة حاسوبية هائلة للاقتصاد الرقمي سريع التوسع في جنوب شرق آسيا، وهي موطن لنحو نصف سعة مراكز البيانات بالمنطقة.
لذا عندما أعلنت سنغافورة في يوليو الماضي عن نتائج مناقصة لبناء مراكز بيانات جديدة، الأولى منذ 2019، كان الاهتمام هائلاً، فقد تدفق أكثر من 20 عرضًا من كافة أنحاء العالم، بما فيه شركة الاتصالات اليابانية العملاقة “إن.تي.تي” وشركات محلية مثل شركة الاتصالات السنغافورية.
لكن المفاجأة التي تلقتها بعض العناصر الفاعلة في الصناعة هي عدم اختيار أي من الشركات المحلية التي قدمت عطاءات للمشروع، ومنح العقود المتنافس عليها إلى شركتين مدعومتين من الصين وشركتين مدعومتين من أمريكا.
وكانت هذه الشركات هي مشغل مركز البيانات الأمريكي الرئيسي “إكوينيكس”، والمنافسة الصينية “جي.دي.سي”، و”مايكروسوفت”، واتحاد يضم “بايت دانس” مالك “تيك توك” والشركة الأسترالية “إيرترونك”.
اعتبر البعض أن اختيار تقسيم العطاء بين مزودي الخدمة الصينيين والأمريكيين لم يكن محض صدفة في سوق يكون فيها لكل من القوتين العظمتين مصالح وطنية، ويُنظر للتقنيات الرقمية، خصوصا خدمات الحوسبة السحابية، باعتبارها موارد استراتيجية بشكل متزايد.
وبهذا السياق، تبدو سنغافورة حريصة على عدم الانحياز إلى أي جانب، حسب ما نقلته مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
أصرت هيئة تطوير وسائل الإعلام المعلوماتية، وهي الهيئة التنظيمية الرقمية المسؤولة عن المناقصة في سنغافورة، على أنه “جرى اختيار مقترحات تنافسية كبيرة لتعزيز مكانة سنغافورة كمركز إقليمي والمساهمة في تحقيق أهداف اقتصادية أوسع”.
لكن المناقصة هي علامة على أن الحكومات في جميع أنحاء المنطقة بدأت تتصالح مع إدارة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين.
يعد الاقتصاد الرقمي المزدهر في المنطقة أحد القطاعات القليلة في العالم التي تتنافس فيها شركات التكنولوجيا الصينية والأمريكية بشكل مباشر، ومن المتوقع وصول السوق إلى تريليون دولار بحلول 2030، وفقًا لتقرير صدر هذا العام عن “جوجل” و “تماسيك هولدينجز” وشركة الاستشارات الأمريكية “باين آند كو”.
وإضافة إلى شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة “مايكروسوفت” و “جوجل” و “أمازون دوت كوم” و “ميتا”، تستضيف سنغافورة المقر الإقليمي لشركات التكنولوجيا الصينية الكبرى مثل قسم الحوسبة السحابية في “علي بابا” و “تيك توك”، المملوكة لشركة “بايت دانس”.
يقول العديد من المحللين، إن سنغافورة، موطن ما يقرب من نصف مراكز البيانات في جنوب شرق آسيا، تعمل بمثابة “منطقة محايدة” لعمالقة التكنولوجيا العالمية.
وفي النهاية، يلعب المستهلكون دوراً أساسيًا في تحديد الفائزين. فالشركات الأمريكية تتمتع بريادة في خدمات الحوسبة السحابية، والبرامج المؤسسية التي تستخدمها الشركات، لكن وفقاً لبعض المقاييس، تحتل الصين مركز الصدارة بين المستهلكين في العديد من الفئات.
قال جيمس لويس، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن “ثمة انقسام في جنوب شرق آسيا بين الشركات والمستهلكين، إذ تفضل الشركات الولايات المتحدة، فيما يفضل المستهلكون الصين”.
تشير منصة البيانات “داتا دوت أيه أي” إلى أن تطبيق “تيك توك” هو التطبيق الأكثر تحميلاً في تايلاند وماليزيا وسنغافورة، بينما يتصدر “فيسبوك” المشهد في الفلبين.
كان “تيك توك” أيضًا هو التطبيق الذي ينفق عليه المستهلكين في 5 دول جنوب شرق آسيا بشكل كبير، في حين أن “ميتا” يتصدر جميع البلدان الستة التي يوجد بها كل من “واتساب” و “فيسبوك”.
سوق الحوسبة السحابية
تهيمن الشركات الأمريكية حاليًا على سوق الحوسبة السحابية في جنوب شرق آسيا، و تمتلك “مايكروسوفت” و “أمازون ويب سيرفيسز” حصة سوقية مجتمعة تزيد عن 60% في البنية التحتية للمنطقة، والتي توفر الحوسبة السحابية لشركات أخرى، حسب بيانات شركة الأبحاث السوقية “أي.دي.سي”.
لكن الشركات الصينية تستثمر أيضًا بكثافة في المنطقة، وتقدم تخفيضات كبيرة في الأسعار تسعى الشركات الأمريكية لمجاراتها.
قال كبير محللي السوق في شركة “أي.دي.سي” لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، شوفيك ناج، إن “الشركات الصينية مثل هواوي وتيسنت وعلى بابا تتطلع إلى مزيد من الفرص مع تباطؤ سوق الحوسبة السحابية المحلية.. إنهم يقدمون حلولاً منخفضة التكلفة وقابلة للتطوير، ويبنون مراكز بيانات للحصول على ميزة تنافسية”.
أضاف مؤلف تقرير الخدمات السحابية التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، جيمس لويس، إن الخدمات السحابية تعد قطاعًا استراتيجيًا بشكل متزايد على مستوى العالم، حيث تناقش الحكومة الأمريكية ما إذا كانت ستضيف الخدمات السحابية إلى قائمة “البنية التحتية الحيوية” التي تعد ضرورية للأمن القومي.
يمكن أن يؤدي اختيار مزود خدمات الحوسبة السحابية إلى تعزيز الاعتماد على موردي الخدمات السحابية لجميع التقنيات الرقمية، بدءًا من البنوك إلى شركات الطيران وحتى السيارات.
وقال لويس في مقابلة مع “نيكاي آسيان ريفيو”: “اتضح أن كل شيء رقمي ومتصل بالشبكة يعتمد على خدمات الحوسبة السحابية.. يبدو أن السحابة هي إطار الاقتصاد الرقمي”.
وأوضح أن ثمة 3 عناصر ستحدد نتيجة الصراع للاستحواذ على لقب مزود الخدمات السحابية المهيمن في المنطقة، وهذه العناصر هي جودة الخدمة والسعر والجدارة بالثقة.
أضاف أن “الأولويات تختلف بين العملاء .. لكن الولايات المتحدة تتصدر المشهد حاليًا من حيث الجودة، والصين من حيث السعر، لكن ليس كثيرًا. كما أن العروض الجانبية مهمة أيضًا، حيث تقدم الشركات برامج بناء القدرات التكنولوجية كحوافز مثلاً”.
ويتوقع العديد من المحللين أيضًا أن يؤدي نمو الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى إحداث تحول في أعمال الخدمات السحابية، نظرًا لاحتياجاتها الضخمة من البيانات.
وقال رئيس أبحاث الأسهم في “جيه بي مورجان”، لقطاعات التكنولوجيا والإعلام والاتصالات في جنوب شرق آسيا، رانجان شارما : “نتوقع أن نرى الذكاء الاصطناعي وجيل الذكاء الاصطناعي يقودان مساعي الشركات للتحول الرقمي وزيادة الطلب على الحوسبة السحابية”.
وتبرز منطقة جنوب شرق آسيا كمركز عالمي لمقدمي خدمات الحوسبة السحابية.
تشير شركة “أي دي سي” إلى ارتفاع إيرادات البنية التحتية السحابية في المنطقة إلى 2.18 مليار دولار في 2022، بزيادة 25% مقارنة بالعام السابق.
وشكلت سنغافورة نحو نصف الإجمالي، فيما سجلت الفلبين وإندونيسيا وفيتنام وتايلاند وإندونيسيا نمواً سنوياً يزيد على 30%، متجاوزة الأسواق الآسيوية والعالمية التي توسعت بنسبة 25% و29% على التوالي.
تعليقًا على الأمر، قال المحلل لدى “تليجيوجرافي”، مارفن تان، إن “جنوب شرق آسيا كانت محور تركيز رئيسي بالنسبة لمزودي الشبكات العالمية ومقدمي خدمات الحوسبة السحابية ومقدمي مراكز البيانات، مع استمرار نمو المخاوف الجيوسياسية في هونج كونج والقيود على القدرات في سنغافورة”.
منذ افتتاح مركز بيانات في إندونيسيا في 2018، أضافت شركة “علي بابا” مركزين آخرين للبيانات في البلاد خلال ثلاثة أعوام. كما افتتحت منشأة جديدة هناك، العام الماضي .
وقالت سيلينا يوان، رئيسة الأعمال الدولية في شركة “على بابا كلاود إنتليجينس”، إن المنطقة تعد “سوقًا رئيسا” لجهود التوسع الدولية، مدفوعة بالطلب المتزايد من العملاء العالميين. تشكل التكلفة ميزة كبيرة بالنسبة للشركات الصينية.
فقد دخلت شركة “هواوي”، التي تعتبر الحوسبة السحابية صناعة رئيسية على نفس مستوى أشباه الموصلات، تايلاند في 2018، مقدمة عروض أسعار تقل عن أسعار المنافسين بنسبة تصل إلى الثلثين، وفقًا للمحللين في الصناعة.
كذلك، أصبحت إندونيسيا الخط الأمامي لبائعي الحوسبة السحابة الأمريكية والصينية الذين يأملون في الاستفادة من رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، ثم أصبح أكبر سوق إقليمي مركزًا تكنولوجيًا نابضًا بالحياة في غضون عقد واحد فقط، مدفوعًا بمجموعة من الشركات الناشئة.
بعد علي بابا، أطلقت جوجل أول “منطقة سحابية”، أو مجموعة من مراكز البيانات، في إندونيسيا في 2020، وهو أول استثمار من نوعه بين الباعة الأمريكيين.
وقال مسؤول تنفيذي مقيم في جنوب شرق آسيا، إن السوق الإندونيسية هي “الأولوية القصوى” لمنصة “جوجل كلاود”، موضحًا أن عدد موظفي تلك المنصة في إندونيسيا يفوق عدد موظفي الشركات الأخرى التابعة لـ”جوجل”.
يذكر إن إندونيسيا هي الدولة الوحيدة في جنوب شرق آسيا التي تضم الأعمال السحابية لديها أكبر عدد من الموظفين.
سباق التجارة الإلكترونية
فيما يتعلق بالتجارة الإلكترونية، التي شكلت نحو 70% من الاقتصاد الرقمي جنوب شرق آسيا البالغ 195 مليار دولار العام الماضي، كانت الصناعة تحت سيطرة شركات محلية لفترة طويلة، العديد منهم باستثمارات صينية.
وأشارت شركة الاستشارات التقنية “مومنتيم وركس”، إلى أن شركة “شوبي” السنغافورية- التي تعتبر شركتها القابضة “سي” شركة “تينسنت” الصينية أحد مستثمريها بحصة 18.4% ، حصلت على أكبر حصة سوقية قدرها 48.1% في 2022، تليها شركة “لازادا” المملوكة لـ”علي بابا” بنسبة 20.2%، و”توكوبيديا” الإندونيسية بنسبة 18.5%، فيما شكلت “أمازون” والخدمات الأخرى 8.9% فقط.
ورغم الانتكاسات التي تواجهها بعض البلدان، فإن الاقتصاد الرقمي من المقرر أن ينمو، خصوصا مع ظهور سوق الجيل “زد” الماهر في وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة، إذ تقل أعمار 47% من السكان عن 30 عامًا.
ومع توسع الاقتصاد الرقمي جنوب شرق آسيا، يُتوقع أن يصبح الصراع بين عمالقة التجارة الإلكترونية في الولايات المتحدة والصين، بجانب الشركات المحلية، أكثر حدة.