منذ ظهور الذكاء الاصطناعى التوليدى على الساحة، فى نوفمبر الماضى، كانت التوقعات بالنسبة إلى ذوى الياقات البيضاء قاتمة.
تقدر شركة «أوبن إيه آى»، مطورة «تشات جى بى تى»، أنَّ الوظائف الأكثر عُرضة للخطر من الموجة الجديدة من الذكاء الاصطناعى هى الوظائف ذات الأجور الأعلى، وأن الشخص الذى يعمل فى مهنة تدفع راتباً مكوناً من 6 خانات عُرضة للخطر تقريباً ثلاثة أضعاف شخص يكسب 30 ألف دولار.
وتحذر شركة «ماكينزى» من قدرة النماذج على أتمتة تطبيق الخبرات.
أنا أتفهم الإغراء الذى يدفعنا للتغاضى عن هذه التحذيرات بوصفها مجرد توقعات، فقد دفعت الأعوام السابقة كثيراً منا إلى الشعور الزائف بالأمان بأن الأتمتة هى شىء يحدث لوظائف الآخرين، وليس لوظائفنا أبداً.
لكن الخوف من أن الذكاء الاصطناعى قد يستولى فى يوم من الأيام على وظائف ذوى الياقات البيضاء هو حقيقة واقعة بالفعل.
فى دراسة إبداعية نُشِرت هذا الصيف، أظهر باحثون أمريكيون، أنه فى غضون بضعة أشهر من إطلاق «تشات جى بى تى»، شهد كاتبو المحتوى ومصممو الجرافيك على منصات العمل الحر الكبيرة عبر الإنترنت انخفاضاً كبيراً فى عدد الأعمال التى حصلوا عليها، بل شهدوا انخفاضات أكثر حدة فى الأرباح حتى.
وهذا لا يشير فقط إلى أن الذكاء الاصطناعى التوليدى كان يستولى على عملهم، بل يشير أيضاً إلى أنه يقلل من قيمة العمل الذى ما زالوا يؤدونه.
الأمر الأكثر لفتاً للانتباه هو أن الدراسة وجدت أن العاملين لحسابهم الخاص الذين حصلوا فى السابق على أعلى الأرباح وأكملوا معظم أعمالهم، لم تكن احتمالية رؤية انخفاض فى توظيفهم وأرباحهم أقل من العاملين الآخرين، بل كانت نتائجهم أسوأ.
بعبارة أخرى، إنَّ كونك أكثر مهارة لا يحميك من فقدان العمل أو الأرباح.
لكن سوق العمل الحر عبر الإنترنت يغطى شكلاً خاصاً جداً من عمل ذوى الياقات البيضاء وسوق العمل.
ماذا عن النظر إلى أعلى مراتب طبقة العاملين فى مجال المعرفة؟
لهذا السبب، يمكننا أن ننتقل إلى دراسة حديثة ورائعة أجرتها كلية هارفارد للأعمال، التى رصدت تأثير إعطاء «جى بى تى ـ 4»، وهو أحدث ما قدمته شركة «أوبن إيه آى» والأكثر تقدماً، للموظفين فى مجموعة «بوسطن» الاستشارية.
كان موظفو مجموعة «بوسطن» الاستشارية الذين تم تعيينهم عشوائياً لاستخدام «جى بى تى ـ 4» عند تنفيذ مجموعة من المهام الاستشارية أكثر إنتاجية بكثير من زملائهم الذين لم يتمكنوا من استخدام الأداة.
ولم يقتصر الأمر على تنفيذ الاستشاريين الذين ساعدهم الذكاء الاصطناعى المهام بشكل أسرع 25% وإنجاز مهام أكثر بشكل عام بنسبة 12%، بل تم تقييم عملهم على أنه أعلى جودة بنسبة 40% من أقرانهم الذين لم يتلقوا مساعدة الذكاء الاصطناعى.
استفاد الموظفون من مختلف المهارات، لكن فى نمط شائع الآن فى دراسات الذكاء الاصطناعى التوليدى، جاءت أكبر مكاسب الأداء بين الموظفين الأقل مهارة فى القوى العاملة.
وهذا أمر بديهى، فمن الأفضل فهم النماذج اللغوية الكبيرة بوصفها مكررة وملخصة ممتازة للمعرفة الإنسانية الموجودة فى المجال العام.
وكلما اقتربت معرفة الفرد بالفعل من هذا الحد، قلت الفائدة من استخدامها.
لكن كانت هناك مشكلة واحدة: فى مهمة أكثر دقة، تضمنت تحليل الأدلة الكمية فقط بعد قراءة دقيقة للمواد النوعية، كان أداء الاستشاريين بمساعدة الذكاء الاصطناعى أسوأ، فقد غابت عن أداة «جى بى تى» التفاصيل الدقيقة.
لكنَّ مجموعتين من المشاركين خالفتا هذا الاتجاه، الأولى ـ التى أطلق عليها المؤلفون اسم «السايبورج» ـ بالارتباط مع الذكاء الاصطناعى، تصوغ المجموعة باستمرار استجاباته وتفحصها وتنقحها، فى حين أن الثانية ـ «القنطور» ـ من خلال تقسيم العمل، تسلم مزيداً من المهام الفرعية المناسبة للذكاء الاصطناعى مع التركيز على مجالات خبرتها.
تخبرنا الدراسات مجتمعة بثلاثة أشياء:
أولاً، سيكون التنظيم أمراً أساسياً، والعمل الحر عبر الإنترنت هو سوق عمل غير منظم كما سيتضح، ودون وسائل الحماية، حتى العاملون فى مجال المعرفة سيواجهون مشكلات.
ثانياً، كلما كان الدور متعدد الأوجه، قل خطر الأتمتة الكاملة، فنموذج العمل الحر لأداء مهمة واحدة لعدة عملاء، مثل كتابة المحتوى أو تصميم الشعار، معرض للخطر خاصة.
ثالثاً، يتطلب تحقيق أقصى استفادة من هذه الأدوات، مع تجنب مخاطرها، التعامل معها بوصفها امتداداً لنا، والتحقق من مخرجاتها كما نتحقق من نتائجنا، فهى ليست مساعدة منفصلة معصومة من الخطأ يمكننا أن نسلمها المسئولية.
بلغة جيل الألفية، يعد الذكاء الاصطناعى التوليدى الصديق العدو للعمال ذوى الياقات البيضاء، ومن الحكمة أن نكون حذرين، لكن هذه العلاقة ربما تصبح مزدهرة.
بقلم: جون بيرن مردوخ
كاتب لدى صحيفة «فاينانشيال تايمز»
المصدر: صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية