يواجه محافظو البنوك المركزية اتهامات بالاستجابة ببطء شديد للعلامات التي تشير إلى أن أزمة التضخم بدأت تتلاشى، بعد أقل من عامين من تعرضهم للانتقادات بسبب تأخرهم في الاستجابة لارتفاع الأسعار الأكثر وحشية منذ جيل كامل.
يحذر بعض صناع السياسات، بالفعل، من أن البنوك المركزية بإمكانها إلحاق الضرر بالاقتصادات الضعيفة- تعاني منطقة اليورو من ركود طوال العام- أو إعاقة الحكومات المثقلة بالديون مثل إيطاليا، بانتظارها لفترة أطول مما ينبغي لخفض تكاليف الاقتراض.
دُفع البنك المركزي الأوروبي لتصدر هذا النقاش مؤخرًا بعد انخفاض التضخم في منطقة اليورو إلى 2.4%، وهو أدنى مستوى منذ يوليو 2021، ما جعل نمو الأسعار يقترب بشكل مثير من هدف البنك البالغ 2%.
وثمة مناقشات مماثلة تختمر في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حتى لو لم تنخفض معدلات التضخم الرئيسة هناك إلى هذا المستوى المنخفض بعد، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
عن ذلك، قال إينيس ماكفي، كبير الاقتصاديين لدى “أكسفورد إيكونوميكس”: “السؤال هو أي من البنوك المركزية الكبرى معرض لخطر ارتكاب خطأ سياسي هنا، وبالنسبة لي، هو البنك المركزي الأوروبي على الأرجح، لأن التضخم سيتراجع بسرعة”.
وأوضح أن البنوك المركزية “لديها كل الحوافز للتحدث بصرامة، لكن الإجراء يجب أن يتغير”.
كان رد فعل المستثمرين تجاه بيانات التضخم في منطقة اليورو التي جاءت أقل من التوقعات للشهر الثالث على التوالي هو تقديم رهاناتهم حول متى سيبدأ البنك المركزي الأوروبي في خفض أسعار الفائدة، إذ يتوقع العديد من الاقتصاديين حدوث ذلك في النصف الأول من العام المقبل.
اقرأ أيضا: “باول”: السياسة النقدية الأمريكية ستبقى متشددة لحين احتواء التضخم
قال ديرك شوماخر، الاقتصادي السابق في البنك المركزي الأوروبي والذي يعمل الآن لدى البنك الفرنسي “ناتيكسيس”، إن التضخم في منطقة اليورو في طريقه ليصل إلى 2% بحلول الربيع المقبل، لكن خوف صناع السياسات من التقليل من تقدير التضخم مرة أخرى يعني “أن الأمر سيستغرق وقتًا أطول قليلاً للتوصل إلى إجماع كاف في مجلس الإدارة على خفض التضخم”.
وتوقع شوماخر ، أن يخفض البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة في يونيو ثم المضي قدمًا في خفض بمقدار ربع نقطة مئوية في كل اجتماع العام المقبل.
وألمح محافظ البنك المركزي الإيطالي الجديد فابيو بانيتا، الذي انضم من البنك المركزي الأوروبي الشهر الماضي، مؤخرًا إلى أنه قد يكون من الضروري خفض أسعار الفائدة قريبًا “لتجنب الأضرار غير الضرورية للنشاط الاقتصادي والمخاطر التي تهدد الاستقرار المالي”.
ارتفعت أسواق السندات السيادية بعد تصريحات محافظ بنك فرنسا فرانسوا فيليروي دي جالهاو، مع رهان المستثمرين على خفض البنك المركزي الأوربي لأسعار الفائدة خلال الأشهر القليلة الأولى من العام المقبل.
وقال محافظ بنك فرنسا إن “مسألة خفض أسعار الفائدة قد تُطرح عندما يحين الوقت خلال 2024، لكن ليس الآن.. عندما يكون العلاج فعالاً، عليك التحلي بالصبر بشكل كافي حتى يسري مفعوله”.
لكن واضعي أسعار الفائدة الآخرين يتراجعون، فقد قال محافظ البنك المركزي الألماني يواكيم ناجل إن الانخفاض “المشجع” في التضخم مؤخرًا لم يكن كافيًا لاستبعاد احتمالية الحاجة لارتفاع تكاليف الاقتراض.
كما حذر من أنه “من السابق لأوانه التفكير في احتمال خفض أسعار الفائدة الرئيسة”.
هذه الحجة حظيت بدعم من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث قالت كبيرة الاقتصاديين كلير لومبارديلي إن البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا لن يكونا في وضع يسمح لهما بتخفيف تكاليف الاقتراض حتى 2025 نظرًا لاستمرار التضخم الأساسي الناجم عن ضغوط الأجور.
اقرأ أيضا: محافظو البنوك المركزية يحذرون من حالة عدم اليقين بشأن السياسة النقدية
يدرك محافظو البنوك المركزية جيدًا أيضًا أن تباطؤ الطلب وارتفاع معدلات البطالة واستمرار معاناة حاملي الرهن العقاري ستؤدي إلى زيادة الضغوط السياسية لتخفيف أسعار الفائدة.
وهذا هو الحال بشكل خاص بالنظر إلى أن المملكة المتحدة تتجه نحو انتخابات محتملة خلال العام المقبل.
قال هيو بيل، كبير الاقتصاديين لدى بنك إنجلترا، لـ”فاينانشيال تايمز” الشهر الماضي، إن انخفاض الأسعار قد يعطي انطباعاً خاطئاً بأن تهديد التضخم قد انتهى.
وأضاف أن التحدي الذي يواجه صناع السياسات هو ضمان استمرارية إبقاء السياسة النقدية متشددة في وقت سيكون فيه “ضغوط كثيرة في مواجهة ضعف نمو العمالة والنشاط وانخفاض التضخم الرئيسي، لإعلان النصر والمضي قدمًا”.
في الولايات المتحدة، حيث ظل النمو أقوى كثيرًا من نظيره في أوروبا، لم يتردد بنك الاحتياطي الفيدرالي إلا بالكاد في موقفه المتعلق بأن دورة رفع أسعار الفائدة قد لا تنتهي، وأن أولئك الذين يتوقعون الانفراج في هيئة تخفيضات سيتعين عليهم التحلي بالصبر.
قال باول يوم الجمعة، قبل فترة هادئة مقررة قبل اجتماع السياسة الأخير لهذا العام، منتصف ديسمبر: “سيكون من السابق لأوانه أن نستنتج أننا حققنا موقفًا تقييديًا بما فيه الكفاية أو التكهن بموعد تخفيف السياسة.. نحن على استعداد لتشديد السياسة بشكل أكبر إذا أصبح من المناسب القيام بذلك”.
هذا التردد يعكس رغبة بنك الاحتياطي الفيدرالي في حماية مصداقيته من خلال تجنب الحاجة إلى عكس المسار إذا ظلت ضغوط الأسعار مرتفعة بشكل عنيد، وهو الخطر الذي أوضحته ماري دالي، رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو، لصحيفة “فاينانشيال تايمز” خلال نوفمبر.
قال كبير الاقتصاديين لدى شركة “بانثيون إيكونوميكس”، إيان شيبردسون، إن السبب الآخر وراء استمرار تشدد بنك الاحتياطي الفيدرالي هو قلقه بشأن سوء الحكم على مسار التضخم مرة أخرى، بعد أن تعرض لانتقادات واسعة النطاق لفشله في توقع ارتفاع الأسعار بعد الوباء.
لكن في ظل توقع تباطؤ النشاط الاقتصادي وتراجع الطلب على العمالة واعتدال نمو الأجور، قال شيبردسون إن بنك الاحتياطي الفيدرالي يقدم الآن نوعًا مختلفًا من التنبؤ بالفشل، وهو التقليل من وتيرة تراجع التضخم.
أوضح أن “الضغوط ستتصاعد خلال الأشهر القليلة المقبلة، ولهذا السبب أنا ملتزم بخفض سعر الفائدة في مارس”.
اقرأ أيضا: دوتشيه بنك: البنوك المركزية العالمية تتجه نحو خفض الفائدة أكثر من رفعها
كما يتوقع أن يخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة خلال العام المقبل من 5.25% إلى 5.5% بمقدار 1.5 نقطة مئوية، وبـ1.25 نقطة مئوية أخرى في 2025.
مع ذلك، يقول بعض صُناع السياسات إنه ما زال من السابق لأوانه إعلان النصر في المعركة المخاضة ضد التضخم، بينما تواجه الولايات المتحدة خطر يتمثل في أن يؤدي النمو السريع الأخير إلى إبقاء التضخم مرتفعاً للغاية.
وقال ويليام إنجليش، المدير السابق لقسم الشؤون النقدية لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي، إنه في هذا السيناريو، لن يرتدع بنك الاحتياطي الفيدرالي عن إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة حتى لو تم تكثيف الاستفزازات السياسية قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في العام المقبل.
وأوضح أن “هذا هو المغزى من وجود بنك مركزي مستقل، وهم في الحقيقة لا يريدون إفساد ذلك”.
حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد مؤخرًا من أن التضخم في منطقة اليورو من المرجح أن يرتفع مرة أخرى في ديسمبر مع إلغاء الدعم الحكومي، الذي أبقى أسعار الطاقة منخفضة.
في منطقة اليورو، يتوقف جزء كبير من النقاش الآن على التضخم الأساسي، الذي يستثني أسعار الطاقة والغذاء المتقلبة.
يقول الاقتصاديون إن احتساب التضخم الأساسي على مدى الأشهر الثلاثة الماضية على أساس سنوي يُظهر أنه انخفض بالفعل إلى هدف البنك المركزي الأوروبي.
لكن آخرين يشيرون إلى عوامل غير متكررة تؤدي إلى انخفاض التضخم، مثل انخفاض أسعار عروض العطلات، ويقولون إن النمو السريع للأجور سيبقيه مرتفعًا العام المقبل.
قال يورج كريمر، كبير الاقتصاديين لدى المقرض الألماني “كومرتس”، إن “الضغط العام على البنك المركزي الأوروبي سيرتفع، خاصة من الدول الأعضاء المثقلة بالديون”.
وأضاف: “ومع ذلك، يجب على البنك المركزي الأوروبي أن يقاوم الضغوط”، متوقعاً أن يستقر التضخم الأساسي في منطقة اليورو عند حوالي 3% خلال العام المقبل.