يبدو أن العقارات متجهة إلى الانكماش على المدى المتوسط
بعد الأزمة المالية العالمية، أدرك الاقتصاديون سريعًا أن الاقتصاد العالمي لن يعود إلى سابق عهده أبدًا.
فالاقتصاد سيتجاوز الكارثة، لكنه سيتعافى إلى “وضع طبيعي جديد”، بدلاً من الوضع الذي كان قائمًا قبل الأزمة.
وبعد أعوام قليلة، تبنى قادة الصين هذه العبارة أيضًا، واستخدموا هذا المصطلح لوصف تحول البلاد بعيدًا عن النمو السريع والعمالة الرخيصة والفوائض التجارية الهائلة، وزعموا أن هذه التغييرات تمثل تطوراً ضرورياً في اقتصاد الصين، وهو تطور ينبغي قبوله، وليس مقاومته.
عادت هذه المعنويات إلى الظهور مرة أخرى بعد الحملة التي شنتها الصين للتصدي لتفشي كوفيد-19 وإعادة فتح البلاد المخيبة للآمال هذا العام.
وتبدو آفاق النمو في الصين أضعف “هيكليًا”، وهذا أحد الأسباب التي دفعت وكالة موديز للتصنيف الائتماني إلى قول إنها قد تضطر إلى خفض التصنيف الائتماني للصين على المدى المتوسط.
أعلن العديد من الاقتصاديين عن وضع طبيعي جديد في سوق العقارات الجامحة في الصين، فيما يأمل بعض المعلقين حدوث توازن جديد في علاقات الصين مع أمريكا في أعقاب الاجتماع الأخير بين زعيمي البلدين.
كما حدد تساي فانج، من الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، في سبتمبر، وضعاً طبيعياً جديداً، نتج عن مزيج من تقلص عدد سكان الصين وشيخوخة المستهلكين وأرباب العمل الذين يصعب إرضاؤهم.
ومعايرة الوضع الطبيعي الجديد أمر ملح إلى حد ما، خصوصا أن أغلب المتنبئين يتوقعون نمو الاقتصاد الصيني بنسبة تقل عن 5%، فيما تشير توقعات وكالة التصنيف الائتماني “موديز” إلى 4%.. بالتالي يتعين على المسؤولين تحديد مدى قوة مقاومة هذا التباطؤ.
إذا تصوروا أنه يمثل توازناً جديداً، فقد يقبلونه ويخفضون هدف النمو وفقاً لذلك.
وإذا كانوا يعتقدون أن الصين لديها مجال للنمو بشكل أسرع، فقد يلتزموا بهدف 5% الذي حددوه لعام 2023، وسيكون تحقيق مثل هذا الهدف أكثر صعوبة في 2024 مما كان عليه العام الحالي، لأن الاقتصاد لن يستفيد من دفعة أخرى لإعادة الفتح.
صناعات السيارات الكهربائية وبطاريات الليثيوم والطاقة المتجددة.. لاتزال صغيرة نسبيًا
ومع ذلك، فإن الهدف الطموح يمكن أن يخدم أيضًا غرضًا، إذ يؤكد التزام الحكومة بالنمو، ويطمئن المستثمرين إلى أن مزيدا من المساعدة المالية في الطريق إذا لزم الأمر.
من المستحيل أن نفكر في الكيفية التي قد ينمو بها الاقتصاد دون أن نفكر أولاً في الكيفية التي قد ينتهي بها الركود العقاري في الصين.
رغم أن معظم الاقتصاديين يتفقون على أن السوق “لا يمكن أن تعود إلى مجدها الماضي”، إلا أن هناك اتفاقًا أقل حول مدى بشاعة مستقبلها، على حد تعبير ليو يوان تشون، من جامعة شنغهاي للتمويل والاقتصاد.
كانت المبيعات في الماضي مدعومة بطلب المضاربة على الشقق من المشترين الذين افترضوا أن أسعارها سترتفع، لكن سيتعين على السوق في المستقبل أن يلبي بشكل رئيس الطلب الأساسي من المشترين الذين يريدون منزلاً جديداً أو منزلاً أفضل.
يمكن لمطوري العقارات أيضًا الاستفادة من الجهود التي تبذلها الحكومة لتجديد “القرى الحضرية”.
وفي ظل توسع المدن الصينية، فقد شملت البلدات والقرى التي كانت تصنف ذات يوم على أنها ريفية، فالمدن تنتقل إلى الناس وليس العكس.
هذا التحضر كان يمثل نحو 55% من سكان الريف البالغ عددهم 175 مليون نسمة، الذين أصبحوا من سكان المدن خلال الأعوام العرة من 2011 إلى 2020، وذلك وفقًا لوكالة التصنيف الائتماني الذهبية الدولية، وهي وكالة تصنيف صينية.
وتشير بعض التقديرات إلى أن مشروع “القرى الحضرية” التابع للحكومة قد يشمل ما يصل إلى 40 مليون شخص في 35 مدينة خلال الأعوام القليلة المقبلة.
كما كشف ركود العقارات في الصين عن الحاجة إلى “وضع طبيعي جديد” في الترتيبات المالية في البلاد، وقد أضر الانكماش بمبيعات الأراضي، مما أدى إلى قطع مصدر حيوي للدخل بالنسبة للحكومات المحلية.
وهذا أدى إلى زيادة صعوبة تحملهم لديون الشركات التي يمتلكونها و”أدوات التمويل” التي يرعونها.
وهذه الالتزامات الطارئة “تتبلور”، على حد تعبير وكالة “موديز”.
وترغب الحكومة المركزية في منع التخلف الصريح عن سداد أي من السندات المتداولة علناً، والصادرة عن أدوات تمويل الحكومات المحلية.. لكنها حريصة أيضاً على تجنب عملية إنقاذ أوسع نطاقاً، الأمر الذي من شأنه أن يشجع على الإقراض المتهور لمثل هذه الأدوات في المستقبل.
ورغم أن أي مساعدة تقدمها الحكومة المركزية على مضض ستضعف الموارد المالية العامة، فإن رفض المساعدة قد يكون مكلفاً من الناحية المالية أيضاً، إذا أدى التخلف عن السداد إلى تقويض الثقة في النظام المالي المملوك للدولة.
وفي الوقت الحالي، تظل العلاقة بين الحكومة المركزية في الصين وحكوماتها المحلية وأدوات تمويل الحكومات المحلية قيد التنفيذ.
ومهما حدث، يبدو أن العقارات متجهة إلى الانكماش على المدى المتوسط، لكن ماذا سيحل محلها؟
بدأ المسؤولون الحديث عن “الصناعات الثلاثة الجديدة”، وهي السيارات الكهربائية وبطاريات الليثيوم أيون والطاقة المتجددة، خاصة طاقة الرياح والطاقة الشمسية.
لكن رغم ديناميكيتها، فإن مثل هذه الصناعات صغيرة نسبيًا، إذ تمثل 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي للصين، حسب ما قالته ماجي وي، من بنك “جولدمان ساكس”.
وفي المقابل، لا تزال العقارات تمثل ما يقرب من 23% من الناتج المحلي الإجمالي، بمجرد أخذ علاقاتها مع الموردين الرئيسيين وطلب المستهلكين وتمويل الحكومات المحلية في الاعتبار.
وحتى إذا توسعت الصناعات “الثلاث الجديدة” مجتمعة بنسبة 20% سنوياً، فإنها لن تتمكن من تعزيز النمو بقدر كبير في الأعوام القليلة المقبلة بقدر ما سيقلصه الانكماش العقاري منه، كما أنها لا تحتاج إلى عمالة كثيفة مثل العقارات.
في الوقت نفسه، انهارت ثقة المستهلك وقفزت مدخرات الأسر أثناء عمليات الإغلاق غير المنتظمة بسبب الجائحة.
يعتقد العديد من المعلقين أن هذه التجربة تركت ندوبًا دائمة، فالمستهلكون لا يزالون يقولون إنهم متشائمون في الاستطلاعات، في حين أنهم يبدون وكأنهم أقل بخلاً في المتاجر، إذ ينمو إنفاقهم الآن بشكل أسرع من دخلهم.