فى خطاب ألقاه لتقييم الصين لظروف التجارة العالمية فى 2024، حذر وزير التجارة وانج وينتاو، الأسبوع الماضى، من أن «البيئة سيئة»، قائلاً: إن «تزايد الحمائية التجارية» و«الصراعات الجيوسياسية المكثفة» يأتيان ضمن التحديات الرئيسية.
لكنه طمأن شعبه بأن الصادرات القياسية من الصناعات «الثلاث الجديدة» تأتى فى صالح الصين، وهذه الصناعات هى السيارات الكهربائية، ومنتجات الطاقة الشمسية، وبطاريات الليثيوم، حسب ما نقلته صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية.
أدى النمو السريع للسلالة الجديدة من الصادرات الخضراء فى الصين، التى ارتفعت بنسبة 30% على أساس سنوى إلى تريليون رنمينبى «139.3 مليار دولار» فى 2023، إلى تعزيز ثانى أكبر اقتصاد فى العالم فى وقت يواجه فيه ركوداً عميقاً فى العقارات، وضغوطاً انكماشية، وانخفاض ثقة المستثمرين.
لكن بالنسبة لشركائها التجاريين من البلدان المتقدمة، فإنَّ احتمال إغراق واردات الصين منخفضة التكلفة أسواقها وشطب الوظائف فى صناعات مهمة مثل قطاع السيارات والطاقة الشمسية وطاقة الرياح يثير قلقاً متزايداً.
ويُتوقع أن تختتم المفوضية الأوروبية نهاية هذا العام تحقيقاً لمكافحة الدعم فى إنتاج السيارات الكهربائية الصينية، ما قد يرفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية.
وتدرس بروكسل، أيضاً، اتخاذ تدابير دعم طارئة لصناعة الألواح الشمسية، بما فيها التحقيق فى مكافحة الإغراق، كما فرضت الولايات المتحدة ضوابط التصدير على شحنات التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين.
ويتعين على الاتحاد الأوروبى، والولايات المتحدة، استخدام مصطلح «التخلص من المخاطر» المفضل لدى المسئولين، وتنويع مصادر منتجاتهما الرئيسية، وتشديد فحص الاستثمار بالنسبة للشركات الصينية، والتدقيق فى المعاملات وسط مخاوف تتعلق بالأمن القومى.
هاجمت بكين تحقيقات الاتحاد الأوروبى بشأن مكافحة الدعم فى السيارات الكهربائية، ووصفته بأنه «حمائية مكشوفة»، وانتقدت مصطلح «التخلص من المخاطر».
لكنَّ المنتقدين الغربيين يقولون إنَّ عملية صنع السياسات فى الصين كانت تجارية على مدى عقود، مع تحديد منهجى للأهداف لزيادة الاعتماد على الذات فى سلسلة التوريد المحلية.
كما تشكو الشركات الأجنبية أنها تواجه عقبات متزايدة فى الوصول إلى السوق الصينى.
وتريد الدول المتقدمة، خاصة دول الاتحاد الأوروبى، أن تخفف الصين من سياساتها الصناعية، والتركيز على الاقتصاد المحلى.
فى الوقت نفسه، فإنَّ القادة الصينيين «يعجبهم بوضوح فكرة العلاقات التجارية المفتوحة، لكنها علاقات تتسق مع الطريقة التى يريدون بها تنفيذ السياسة الصناعية».
ولطالما أعربت الدول المتقدمة عن استيائها من السياسة الصناعية التى تنتهجها بكين، لكن التناقضات أصبحت أكثر إلحاحاً بالنسبة للاتحاد الأوروبى فى 2022، عندما حققت الصين فائضاً تجارياً «تاريخياً» مع الكتلة يقدر بنحو 400 مليار يورو.
أعلنت بروكسل عن التحقيق فى مكافحة الدعم عندما بدأت السيارات الكهربائية الصينية تكتسب حصة فى السوق العام الماضى.
وفى الوقت نفسه، أقنعت حرب أوكرانيا والجائحة الزعماء الأوروبيين بأنهم بحاجة إلى تنويع مصادر بعض المنتجات الرئيسية فى سلاسل توريدهم، مثل المعادن النادرة، التى تهيمن عليها الصين، وجاءت أفعالهم بجانب الإجراءات المتخذة فى الولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى تقييد وصول الصين إلى أشباه الموصلات المتقدمة، وتكثيف فحص الاستثمارات الداخلية والخارجية من وإلى الصين، وقع الرئيس جو بايدن فى 2022 على قانون «الحد من التضخم»، الذى يهدف إلى تعزيز سلسلة توريد تصنيع الطاقة المتجددة فى أمريكا.
وانتقد المسئولون الصينيون «السياسات الاقتصادية والتجارية التقييدية» لأوروبا.
كما أرجع المدير العام للشئون الأوروبية بوزارة الخارجية الصينية، وانج لوتونج، التنمية الصناعية فى الصين إلى «الابتكار».
ومع ذلك، تُطبق السياسات الطموحة الهادفة بشكل مباشر إلى تقليل اعتماد اقتصاد الصين على الدول الأجنبية منذ عقود.
كان الدافع وراء ذلك فى الأصل هو رغبة الصين فى اللحاق بنظيراتها الغربية بعد عقود؛ حيث كان الاقتصاد مغلقاً بشكل كبير أمام التجارة العالمية فى ظل قيادة ماو تسى تونج، لكن هذا الأمر أصبح ضرورة حتمية للأمن القوى فى عهد شى، الذى سعى ليصبح أكثر حزماً على الساحة الخارجية.
فى أوائل عقد 2000، أطلقت بكين العديد من الخطط الصناعية الهادفة إلى تقليل اعتماد البلاد على التكنولوجيا المستوردة إلى 30% أو أقل بحلول 2020.
لكن الخطة التى أثارت قلق الحكومات الغربية، بما فيها خطة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، كانت «صُنع فى الصين 2025»، والتى سعت إلى تعزيز براعة الصين التكنولوجية لأعلى المستويات.
وقالت تاو وانج، كبيرة الاقتصاديين الصينيين لدى بنك «يو بى إس»، إنَّ صُناع السياسات آنذاك كانوا قلقين بشأن ارتفاع تكاليف العمالة، والشيخوخة السكانية السريعة، ونمو التقنيات الرقمية فى الخارج، موضحاً أن «الصين كانت تواجه تحدى فخ الدخل المتوسط، لذلك كنا بحاجة للارتقاء بسلسلة القيمة وتحديث صناعتنا حتى نتمكن من المنافسة».
كان الجزء المثير للقلق فى سياسة «صنع فى الصين» بالنسبة للدول المتقدمة هو أن الوثائق المصاحبة أدرجت أهدافاً طموحة لحصة السوق عبر 10 صناعات استراتيجية، بداية من تكنولوجيا المعلومات وأدوات الآلات الرقمية إلى الروبوتات والفضاء والسيارات العاملة بالطاقة الجديدة.
وبعد أن بلغت احتجاجات الحكومات الغربية ذروتها وشن ترامب حرباً تجارية على الصين، أسقطت بكين تدريجياً مصطلح «صنع فى الصين 2025» من الخطاب الرسمى، وبدأ «شى» التحدث بدلاً من ذلك عن «التداول المزدوج»، محاولاً فى الأساس تحقيق التوازن بين الصادرات والاستهلاك المحلى، وهو توازن لم تتمكن بكين من إدارته بعد.
ومع ذلك، استمرت الإعانات السخية فى التدفق إلى العديد من القطاعات المستهدفة، بداية من أشباه الموصلات إلى السيارات الكهربائية.
ما أثار انزعاج الغرب حقاً بشأن شركات التكنولوجيا النظيفة الصينية هو أن التكنولوجيا التى تنتجها غالباً ما تتفوق على تكنولوجيا الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة.
فقد قال مستشار الأمن القومى الأمريكى جيك سوليفان، فى خطاب ألقاه فى أبريل الماضى، إنَّ الولايات المتحدة «كان عليها التعامل مع حقيقة مفادها أن اقتصاداً كبيراً غير سوقى قد دُمج فى النظام الاقتصادى الدولى بشكل يفرض تحديات كبيرة».
كما أنه اتهم الصين بدعم «كل من القطاعات الصناعية التقليدية، مثل الصلب، على نطاق واسع، فضلاً عن الصناعات الرئيسية المستقبلية».
لكن وانج ـ من جامعة بكين ـ يقول إنَّ تجاهل الدور المهم الذى يلعبه القطاع الخاص الضخم والديناميكى فى الصين فى نجاح العديد من الصناعات، بما فيها السيارات الكهربائية، سيكون خطأً كبيراً.
يقول المحللون، إنَّ أحد الجوانب السلبية لمثل هذا التدخل الصارم من جانب الدولة هو أن السياسات الصناعية الصينية قد تؤدى إلى نتائج لا يمكن التنبؤ بها، وقد تكون مكلفة للغاية.
وبالرغم من أن صناعة الطاقة الشمسية فى الصين نمت لتهيمن على السوق العالمى، فإنها شهدت أيضاً صعوداً وهبوطاً حادين، وهو نمط من الازدهار والكساد يتكرر فى قطاعات أخرى.
فى الوقت نفسه، تسعى الصين جاهدة لتطوير صناعة أشباه الموصلات المتطورة بالرغم من دعم الدولة لها على مدى 40 عاماً.
حتى صناعة السيارات، التى كانت تهيمن عليها المشاريع المشتركة الأجنبية الصينية حتى ظهور سباق السيارات الكهربائية، لم تكن قادرة على المنافسة دولياً بشكل خاص قبل تطوير سيارات الطاقة الجديدة، بحسب ما قالته وانج من بنك «يو بى إس».
تعتقد «وانج»، أن الفرق مع قطاع السيارات الكهربائية هو أن الحكومة «لم تختر الفائزين وتحمِ بعض شاغلى الوظائف وما إلى ذلك، لكنها بدلاً من ذلك خلقت حوافز للمواطنين للدخول فى الصناعة ومن ثم التنافس»، موضحة أن من لديه أفضل استراتيجية وأفضل تكنولوجيا هو الذى يفوز.
وبالرغم من براعتها التكنولوجية، اتبعت صناعة السيارات الكهربائية فى الصين مساراً مماثلاً للقطاعات الأخرى التى تفضلها بكين، وفقاً ليورج ووتكى، الرئيس السابق لغرفة تجارة الاتحاد الأوروبى فى الصين والرئيس الفخرى الحالى.
وقال «ووتكى»، إن «الجميع لديه إمدادات لا نهاية لها من القروض والدعم من الحكومة المحلية، ولهذا السبب عادةً، عندما تعزز الصين نطاق أعمالها، تصبح فى النهاية رخيصة للغاية، وبعد ذلك يكون لديها آلية إنقاذ واحدة فقط، وصمام الأمان هذا يسمى الصادرات»، مضيفاً أن دافعى الضرائب الصينيين هم من يدفعون الفاتورة فى النهاية.
وأوضح أن الإطلاق الأولى للسياسة الصناعية كان مصحوباً على مر التاريخ بقواعد تُصعب على الأجانب المشاركة.
وأضاف: «لا يمكنك التنافس ضد اقتصاد لا ينفتح فى جوهره إلا عندما يغادر القطار المحطة بالفعل».
فى الوقت نفسه، يشير صُناع السياسات فى الصين إلى زيادة إعانات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى للصناعة الخضراء، فمثلاً قُدرت تكلفة قانون «الحد من التضخم» فى الولايات المتحدة فى الأصل بنحو 385 مليار دولار، لكنها قد ترتفع فى النهاية إلى 3 تريليونات دولار.
يقول «ووتكى»: «فى أوروبا قبل 10 أو 20 عاماً، وفى الولايات المتحدة، كانوا يعتقدون أننا إذا تعاملنا مع الصين، فإنها ستصبح أكثر تشبها بنا، لكن الصين تمكنت بالفعل من جعلنا نصبح مثلهم».
لكن ما يختلف فى الجولة الأخيرة من سياسات الصين هو التركيز المتزايد على الأمن القومى، كما يقول المحللون.
فى عهد «شى»، وسعت الحكومة الصينية تعريفها للأمن ليشمل معظم مجالات التكنولوجيا، بداية من الطاقة والبيئة إلى البيانات والتصنيع، مع التركيز على الاعتماد على الذات.
يقول هنرى جاو، أستاذ القانون فى جامعة سنغافورة، إنَّ الصين ستبذل قصارى جهدها لتجنب انهيار العلاقة مع الاتحاد الأوروبى، كما حدث مع الولايات المتحدة فى عهد ترامب.
وبالنسبة للاقتصادات المتقدمة، فإنَّ صادرات الصين وإنتاجها المنخفض التكلفة قد يساعدان الحكومات على موازنة الضغوط التضخمية مع التحول إلى تكنولوجيات أنظف، وقد يوفر هذا دافعاً واحداً لنزع فتيل الخلافات التجارية التى تلوح فى الأفق.