صُناع السياسات بحاجة لاغتنام الفرصة وضبط أوضاع المالية العامة
تتحسن التوقعات الخاصة بالاقتصاد العالمي والاقتصاد الآسيوي، بعد أن أثبت النمو مرونته على نحو مدهش وواصل التضخم الانخفاض.
كان الإنفاق الخاص والحكومي القوي مساهمًا في دعم الطلب خلال 2023، رغم الظروف النقدية المتشددة.
وعلى صعيد العرض، فإن زيادة مشاركة القوى العاملة، وتفكيك اختناقات سلسلة التوريد، وانخفاض أسعار الطاقة، كلها عوامل دعمت النشاط الاقتصادي، حسب ما أوضحته مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
ويتوقع صندوق النقد الدولي الآن أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.1% خلال العام الحالي، وهو ما يتوافق مع وتيرة العام الماضي، ثم يتسارع قليلاً إلى 3.2% العام المقبل.
ومن ناحية أخرى، من المتوقع أن ينخفض معدل التضخم العالمي من 6.8% العام الماضي إلى 5.8% هذا العام، ثم إلى 4.4% العام المقبل، كما أن التضخم الأساسي يسير في اتجاه هبوطي.
وبالنسبة لآسيا، تشير التقديرات إلى أن النمو الاقتصادي العام الماضي بلغ 4.7%، ارتفاعًا من التوقعات السابقة البالغة 4.6% في أكتوبر.
وتشكل تحسينات التوقعات في الصين والهند أغلب المراجعة، إذ أدى ارتفاع الإنفاق على مشاريع إعادة الإعمار والقدرة على الصمود إلى دعم النمو الصين، فيما أدى الطلب المحلي القوي إلى تعزيز تقديرات النمو في الهند، ويعكس تعديل التوقعات أيضًا خططًا لتحفيز السياسات في دول مثل الصين وتايلاند.
وبشكل عام، فإن آسيا تسير على الطريق الصحيح للمساهمة مرة أخرى بثلثي النمو العالمي هذا العام، كما فعلت في عام 2023، ومع ذلك، فإن المتوسط الإقليمي لآسيا يخفي تباينًا كبيرًا بين البلدان.
ثمة أيضًا نبأ سار وهو أن استمرار تراجع التضخم من شأنه أن يزيد من تحسن احتمالات الهبوط السلس في المنطقة.
وكانت ضغوط الأسعار في مرحلة ما بعد كوفيد-19، في المتوسط، أقل حدة في آسيا مقارنة بأماكن أخرى، وهي تنحسر بسرعة بالفعل.
وتشير التقديرات إلى أن متوسط التضخم في آسيا انخفض من 3.8% في عام 2022 إلى 2.6% في العام الماضي، مع تقدم سريع بشكل خاص في الاقتصادات الآسيوية الناشئة.
يذكر أيضًا أن العديد من البنوك المركزية الإقليمية في طريقها للوصول إلى أهداف التضخم الخاصة بها في عام 2024.
وإذا ظل صُناع السياسات ثابتين حتى يتم إعادة تثبيت التضخم بقوة، فقد يظهر مجال للتيسير النقدي في وقت لاحق من العام، ولكن نقول ذلك مجدداً، فإن الصورة في مختلف أنحاء آسيا ليست موحدة.
ففي الصين، بلغ معدل التضخم 0.3% فقط عام 2023، ويرجع ذلك في الأغلب إلى انخفاض أسعار المواد الغذائية والطاقة، فضلاً عن التضخم الأساسي الضعيف، ومن المتوقع أن يتعافى نمو الأسعار تدريجيًا هناك خلال العام المقبل.
وفي اليابان، نتوقع أن يتباطأ التضخم عن مستوى العام الماضي البالغ 3.2%، لكنه يظل أعلى من هدف التضخم في البلاد البالغ 2% حتى عام 2025.
وكان للتضخم المتواضع نسبياً تداعيات غير متوقعة، فمع انخفاض الضغوط السعرية التي يتعين مكافحتها، رفعت البنوك المركزية الآسيوية أسعار الفائدة بنسبة أقل من نظيراتها في أماكن أخرى.
ومن ثم، في النصف الثاني من عام 2023، تجاوز سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية الأمريكية متوسط سعر الفائدة في آسيا الناشئة، وهي ظاهرة غير عادية أدت إلى انخفاض قيم العملات الآسيوية.
خفت حدة هذه الضغوط في الوقت الحالي، إذ أشار بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى احتمالية مضي تخفيضات أسعار الفائدة قدمًا.
ومع ذلك، ثمة خطر من أن تؤدي الظروف النقدية المتباينة في الولايات المتحدة وآسيا إلى تحركات حادة في أسعار الصرف مرة أخرى هذا العام.
وإذا كان الأمر كذلك، فيتعين على البنوك المركزية الآسيوية أن تتجنب تشتيت انتباهها بالاضطرابات المؤقتة وأن تركز بقوة على استقرار الأسعار، ولاتزال هناك مخاطر مهمة أخرى.
أولاً، يمكن أن يؤدي التصحيح الأكبر والأطول أمداً في قطاع العقارات في الصين إلى تقليص الطلب المحلي بشكل أكبر، خاصة إذا كان مصحوباً بضغوط على الموارد المالية للحكومات المحلية، وتوليد رياح معاكسة للمنطقة.
وعلى الجانب الإيجابي، من الممكن أن يؤدي الدعم السياسي الأقوى من المتوقع في الصين إلى تعزيز الطلب المحلي وتوليد تأثيرات غير مباشرة إيجابية.
ثانياً، يمكن أن تؤدي الظروف المالية الأكثر صرامة من المتوقع في الولايات المتحدة أو آسيا إلى فرض ضغوط على الصناعات والاقتصادات المثقلة بالديون.
ثالثا، تعد المخاطر المتزايدة الناجمة عن التفتت الجيوسياسي مرهقة بشكل خاص لآسيا، نظرا للاندماج العميق للمنطقة في التجارة العالمية، ونحن نرى بالفعل أدلة على التأثيرات السلبية في شكل سلاسل توريد أطول وأقل كفاءة، كما أن التهديد بارتفاع تكاليف الشحن يعزز المخاطر التي تتعرض لها التجارة.
ويتعين على صُناع السياسات في آسيا استغلال البيئة الأكثر ملاءمة لتعزيز مرونة اقتصاداتهم.
ويعد ضبط أوضاع المالية العامة أمرًا أساسيًا لاستعادة الاحتياطيات الوقائية وحماية القدرة على تحمل الديون.
كذلك، تحسنت أرصدة الميزانية بعض الشيء في آسيا العام الماضي، لكن ضبط الأوضاع المالية كان أبطأ من المتوقع، لذا فإن الأمر سيتطلب المزيد من التقشف، وسيكون الإشراف المالي القوي ومراقبة المخاطر عنصرًا أساسيًا في الحماية من نقاط الضعف المحتملة في القطاع المالي.
تظل الإصلاحات الهيكلية أيضًا ضرورية لتعزيز الإنتاجية وتخفيف التحديات الناجمة عن التخلص من المخاطر على مستوى العالم، كما سيكون تسريع التحول الأخضر ضروريًا لتحقيق النمو المستدام في المنطقة.