تمكنت أوروبا من النجاة من شتاء واحد منذ الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022.. لكن رغم انخفاض أسعار الغاز بشكل كبير، فمن المؤكد أنها سترتفع مجددًا خلال الأشهر الأكثر برودة المقبلة، وبالتالي، إذا اشترى تجار السلع بأسعار منخفضة جدًا خلال الصيف، فيمكنهم تقديم تسليم مستقبلي بأسعار أعلى بكثير في السوق الآجلة، وللتمكن من إنجاح الصفقة، كل ما احتاجوه هو مكان لتخزين المنتج، حسب ما أوضحته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
وكانت القدرة السرية للاتحاد الأوروبي ممتلئة تقريبا، وكان من الممكن أن يكون وضع الغاز في الناقلات البحرية مكلفاً، لكن الحل الذي توصلوا إليه كان غير تقليدي، وهو ضخ 3 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي شرقاً نحو أوكرانيا.
والواقع أن المحللين افترضوا في الربيع الماضي أن الشركات ستحتاج إلى تأمين مضمون ضد الحرب من قبل الحكومة حتى تتمكن من المجازفة بمثل هذه الصفقة، ولكن بحلول يونيو الماضي، كان الفارق بين أسعار الصيف والشتاء قد اتسع بما يكفي بحيث بدت المراهنة تستحق العناء.
وكان النظام الجمركي السخي في أوكرانيا فيما يتعلق بالتخزين قصير الأجل، إضافة إلى الوعود بعدم مصادرة الغاز بموجب الأحكام العرفية، سبباً في تزويد التجار بحوافز إضافية.
وساعدت الصفقة الناتجة في الحفاظ على مخزون احتياطيات الاتحاد الأوروبي طوال فصل الشتاء، مما أدى إلى خفض أسعار الغاز بجميع أنحاء القارة. كما أنها وفرت أرباحًا جيدة للشركات المعنية.
ويقدر أكوس لوس، من جامعة كولومبيا، أن التجار حققوا ما يصل إلى 300 مليون يورو (320 مليون دولار) من هذه الصفقة، والآن تبدو الصفقة وكأنها اختبار لاستراتيجية الطاقة المستقبلية في أوروبا.
وتعد أوكرانيا موطنًا لثاني أكبر قدرة لتخزين الغاز في القارة، بعد روسيا، بإجمالي يقدر بحوالي 33 مليار متر مكعب، كما أنها تتمتع بمساحة تخزين أكبر من الاقتصادات الكبرى مثل ألمانيا، التي تتمتع بنحو 24 مليار متر مكعب، وتتجاوز بولندا المجاورة بفارق عشر مرات السعة.
وبعد أن تم تطوير معظم هذه المرافق كجزء من البنية التحتية للطاقة في الاتحاد السوفييتي، فإنها تتجاوز بشكل كبير الاحتياجات المحلية لأوكرانيا، كمأ أن الاتحاد الأوروبي والحكومة الأوكرانية يحرصان على تفعيل المبادرة.
وصرح دينيس شميهال، رئيس وزراء أوكرانيا، بأنه يريد تحويل بلاده إلى “ميناء آمن للغاز” في أوروبا، وعرضت شركة “نافتوجاز”، وهي شركة طاقة مملوكة للدولة، ما يصل إلى نصف مساحة التخزين الخاصة بها لشركات الطاقة الأوروبية، كما يستعد المتداولون الآن لتكرار صفقات العام الماضي بأحجام أكبر هذا الربيع، بدءًا من تاريخ سابق.
والتزمت الشركات المشاركة في هذه الصفقة الصمت وهذا يرجع جزئيًا إلى أسباب أمنية، وكانت “ترافيجورا”، وهي شركة السلع العملاقة، الشركة الوحيدة التي تأكدت مشاركتها، لكن تقارير “نافتوجاز” تفيد بأن أكثر من 100 شركة أوروبية استفادت من مواقع التخزين التابعة لها.
كما تقول ناتاشا فيلدنج، من شركة “أرجوس ميديا”، وهي شركة معلومات عن الطاقة، إن هذه الشركات تشمل “شركات الطاقة الكبيرة ذات المكاتب التجارية وشركات المرافق المحلية الأصغر حجماً في شرق أوروبا”، موضحة أن الأخير يمكن أن يحقق أقصى استفادة من هذه الصفقة.
ولا تفتقر دول مثل مولدوفا وسلوفاكيا إلى سعتها الكبيرة للتخزين فحسب، بل إنها تظل أيضاً تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، الذي يجري تسليمه من خلال أوكرانيا بموجب اتفاقية عبور طويلة الأجل، والتي من المقرر أن تنتهي في ديسمبر.
ورغم أن مشاكل الطاقة في أوروبا أصبحت أقل حدة، فإن التخزين يوفر وسيلة للتحوط ضد أي اضطرابات في المستقبل.
وتتطلع أوكرانيا إلى المستقبل أيضاً، إذ لاتزال البلاد تتلقى ما يصل إلى 1.5 مليار دولار سنوياً من الشركات الروسية، التي تستخدم خطوط الأنابيب التابعة لها لتوصيل الغاز بموجب اتفاقية العبور الحالية.
وبمجرد انتهاء هذا الاتفاق، تعتزم الحكومة تعويض بعض النقص باستخدام رسوم التخزين التي تدفعها الشركات الغربية، وثمة أيضاً اعتبار آخر بالنسبة لزعماء أوكرانيا، وكلما تمكنت هذه الدول من دمج صناعة الطاقة في بلادها مع الأسواق الأوروبية، زادت استثمارات الاتحاد الأوروبي في الدفاع عنها، وفي الوقت الذي يبدو فيه الدعم من حلفائهم هشًا، فإن ذلك الأمر يستحق الكثير.