“ميكرون” الأمريكية تضخ 3.7 مليار دولار بمصنع جديد في هيروشيما
كانت شركات صناعة الرقائق اليابانية تتباهى بكونها رائدة في صناعة أشباه الموصلات في العالم، لكنها فقدت بعد ذلك مكانتها أمام منافسيها من كوريا الجنوبية وتايوان والولايات المتحدة الذين تقدموا في التسعينيات وأوائل عقد 2000، ثم تخلت طوكيو عن القطاع بعد عدة محاولات فاشلة لإعادة هيكلة الصناعة.
لكن القيادة السياسية في اليابان عازمة الآن على تغيير الأمور من خلال اجتذاب الشركات الأجنبية التي تفوقت سابقاً على منتجيها المحليين.
وخلال الأعوام القليلة الماضية، جذبت الإعانات الحكومية السخية رواد الصناعة مثل “تايوان لصناعة أشباه الموصلات” و”ميكرون” و”سامسونج” للاستثمار في اليابان.
وبالنسبة لبعض المشاريع، مثل المشروع الخاص بـ”سامسونج”، يصل الدعم الحكومي إلى حوالي 50% من إجمالي الاستثمار.
ووسط اضطرابات سلسلة التوريد المختلفة بسبب كوفيد والصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، ثمة قلق جديد في طوكيو بشأن توريد أشباه الموصلات المتقدمة الضرورية للاقتصادات الحديثة، وهذا دفع الحكومة إلى بذل مزيد من الجهود لإعادة تطوير القطاع، كما يقول المحللون.
وبتوجيه من رئيس الوزراء فوميو كيشيدا، خصصت الحكومة نحو 2 تريليون ين (13 مليار دولار) ميزانية إضافية لصناعة الرقائق في هذه العام المالي، ارتفاعًا من 1.3 تريليون ين في العام السابق، وهي أكبر ميزانية حكومية يابانية لأشباه الموصلات على الإطلاق.
يُظهر التزام طوكيو الجديد، بدعم ليس الشركات اليابانية فحسب، بل الشركات الأجنبية أيضًا، التصميم على استعادة الدور الرائد السابق للبلاد كقوة قوية في مجال أشباه الموصلات.
وقال جون أوكاموتو، الشريك في شركة الاستشارات الإدارية “كيه.بي.إم جي” اليابان، إن “شركة مثل تايوان لصناعة أشباه الموصلات يمكنها تصنيع أشياء لا تستطيع الشركات اليابانية تصنيعها”، مثل الرقائق المتقدمة المستخدمة في الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا القيادة الذاتية، اذ يشكل “وجودهم في البلاد مزايا للأمن الاقتصادي الياباني”.
يأتي صانع الرقائق الأمريكي “ميكرون” ضمن المستثمرين الأجانب الجدد، إذ أعلنت في 2023 اعتزامها استثمار 3.7 مليار دولار في مصنعها لرقائق الذاكرة ذات الوصول العشوائي الديناميكية في مقاطعة هيروشيما خلال الأعوام القليلة المقبلة.
وأعلنت “سامسونج” الكورية الجنوبية أواخر العام الماضي نيتها بناء منشأة للبحث والتطوير في يوكوهاما، متوقعة إنفاق 350 مليار وون (أي 280 مليون دولار) هناك في الأعوام الخمسة المقبلة.
مع ذلك، كانت الجائزة الحقيقية لليابان هي الاستثمار المخطط له بمليارات الدولارات من قبل شركة “تايوان لصناعة أشباه الموصلات”، وهي أكبر شركة لتصنيع الرقائق بالعالم، والتي افتتحت أول مصنع ياباني لها في كوماموتو، الواقعة بجزيرة كيوشو الجنوبية، في 24 فبراير.
ويُتوقع أن تبلغ تكلفة المصنع الأولى 8.6 مليار دولار، وأعلنت الشركة مؤخرًا عن خطط لبناء مصنع ثانٍ في المقاطعة نفسها، مما يرفع إجمالي استثمارات الشركة في كوماموتو لأكثر من 20 مليار دولار حتى 2027.
وقال أوكاموتو، إن استثمارات شركة “تايوان لصناعة أشباه الموصلات”، التي لم يكن من الممكن أن يتوقعها سوى القليل في الصناعة قبل بضعة أعوام، يرمز إلى حقبة جديدة لصناعة أشباه الموصلات في اليابان.
وأضاف أنه “حتى وقت قريب، كان استثمار شركات أشباه الموصلات الأجنبية في اليابان لبناء المصانع أمرًا لم يسبق له مثيل “.
تشكل أشباه الموصلات المحرك الرئيس للاستثمار الأجنبي في اليابان، وهو نوع من الاستثمار الأجنبي المباشر يتضمن بناء مصانع جديدة أو إنشاء شركات تابعة محلية، في اليابان.
وبلغ المتوسط السنوي للاستثمارات الجديدة المعلن عنها في اليابان في الفترة من يناير 2021 إلى أغسطس 2023 أكثر من 15 مليار دولار، وفقًا لتقرير صادر عن منظمة التجارة الخارجية اليابانية.
وشكل قطاع الرقائق حوالي ثلثي هذا الرقم، بقيمة تقارب 10 مليارات دولار.
وقال أوكاموتو، إن هذا يختلف بشكل ملحوظ عن الماضي، عندما “كان الاستثمار الأجنبي المباشر المتعلق بالرقائق مدفوعًا بشكل أساسي بالشركات الأجنبية التي تستحوذ على أعمال الرقائق اليابانية”.
لعبت الإعانات والإعفاءات الضريبية الضخمة التي تقدمها الحكومة اليابانية دورًا كبيرًا في نهضة الرقائق في البلاد، لكن حتى وسط هذه الإعانات، هناك سؤال حول مدى القدرة التنافسية التي قد تصبح عليها اليابان في صناعة الرقائق خاصة مع تكاليف العمالة المرتفعة نسبيًا.
قال تساي، رئيس شركة “باور تك تكنولوجي”، التي تقدم خدمات تغليف الرقائق، إن تكلفة العمل في اليابان أعلى مرتين تقريبًا منها في تايوان.. لكن الأمر يستحق وضع التوسع في الاعتيار وسط استثمار الشركاء المناسبين معًا، مثل استثمار “سوني” في تشغيل مصنع كوماموتو التابع لشركة “تايوان لصناعة أشباه الموصلات”.
وفي الوقت نفسه، أثارت فورة الإنفاق في طوكيو قلق جيرانها وقد تؤدي إلى منافسة شديدة لجذب الاستثمارات والمواهب، إذ حثت صحيفة “هانكوك إلبو” الكورية الجنوبية، مثلاً، حكومة يون سوك يول على عدم التخلف عن الركب أمام التحالفات اليابانية التايوانية، وعلى مراقبة التعاون بين اليابان وشركة “تايوان لصناعة أشباه الموصلات” بعناية.
ويظل السؤال المطروح هو ما إذا كانت المصانع الأجنبية ستولد النهضة المأمولة للصناعة اليابانية، أو ما إذا كانت الإعانات البالغة تريليونات الين والهادفة لمساعدة اليابان على استعادة قدرتها الإبداعية ستجعل البلاد مكانًا جذابًا للشركات الأجنبية لإقامة مصانعها.