أمضى فاتح بيرول، رئيس وكالة الطاقة الدولية، الأعوام الثلاثة الماضية في الحديث بشكل متزايد حول حاجة العالم للتحول من الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة، وسط استمرار نمو انبعاثات الكربون وارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى أرقام قياسية جديدة شهريًا.
في يونيو، على سبيل المثال، قال رئيس وكالة الطاقة الدولية، ذو الـ66 عامًا، إن الوقت قد حان لشركات البترول والغاز “لإعادة النظر في خطط أعمالها”.
وحذر من أن العالم يتجه نحو فائض “مذهل” من البترول بحلول نهاية العقد إذا استمرت الصناعة في زيادة الإنتاج، وذلك وسط تباطؤ اقتصاد الصين وتوجه المزيد من المستهلكين نحو السيارات الكهربائية، مما يقلص الطلب على البترول والغاز، ووردت شركات البترول الكبرى بغضب شديد يشبه غضب الشريك الذي تعرض للخذلان.
فقد دعا بيرول، وهو موظف سابق في منظمة “أوبك”، في 2017 الشركات إلى ضخ مزيد من البترول لتفادي نقص المعروض، إذ قال في مؤتمر “سيرا ويك” في يناير من ذلك العام إن “رسالتنا إلى صناعة البترول هنا في هيوستن هي الاستثمار والاستثمار والاستثمار”.
هذا التغيير في النهج دفع بعض المديرين التنفيذيين في شركات البترول إلى الإشارة بأن بيرول بشكل خاص يلعب بالسياسة وأن الوكالة، التي كانت تقليدياً مصدرًا محايدًا وموضوعيًا للبيانات والتحليلات المتعلقة بالطاقة، أصبحت الآن متحيزة، وفقًا لما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، ومن هنا، يقول أحد رؤساء شركات البترول: “ينبغي عليهم العودة للتركيز على أمن الطاقة”.
كانت وكالة الطاقة الدولية و”أوبك” متوافقتين بشكل كبير في توقعاتهما للطاقة، لكن الآن لديهما رؤى مختلفة تمامًا بشأن مستقبل البترول، حيث ترى الوكالة أن العالم سيصل إلى ذروة البترول في 2029، مع استهلاك 105.6 مليون برميل يوميًا.
وفي الوقت نفسه، ترى “أوبك”، الكارتل البترولي الذي تقوده السعودية، أن لا ذروة في الأفق، حيث يرتفع استخدام البترول إلى ما لا يقل عن 116 مليون برميل يوميًا في 2045.
وبينما تركز وكالة الطاقة الدولية الآن على كيفية تحول العالم بعيدًا عن الوقود الأحفوري، تعتقد “أوبك” أن التخلي عن البترول والغاز سيزعزع استقرار أسواق الطاقة وسيثير أزمات إضافية.
كما أصبحت وكالة الطاقة الدولية هدفًا سياسيًا في الولايات المتحدة، التي تنتج كميات قياسية من البترول والغاز، فقد دعا أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون إلى وقف تمويل أمريكا للوكالة، وأعلن مسؤولون سابقون في إدارة دونالد ترامب أنه سيحاول الإطاحة ببيرول إذا أعيد انتخابه.
وتقول كارلا ساندز، التي تساعد في إدارة سياسة الطاقة في معهد أمريكا أولاً للسياسة، وهو هيئة توصف أحيانًا بأنها “البيت الأبيض المنتظر لترامب”، إنه “يجب على الرئيس القادم أن يعمل على إنهاء هذا الصدى التقدمي وإعادة وكالة الطاقة الدولية إلى مهمتها الأصلي غير الحزبية المتمثلة في تعزيز أمن الطاقة”.
وأضافت: “لا ينبغي أن تمول دولارات دافعي الضرائب منظمة تعمل ضد مصالح الشعب الأمريكي”.
يجادل بيرول بأن الثناء على عمل وكالة الطاقة الدولية يفوق الانتقاد، قائلاً “أحيانًا آخذ الأمر شخصيًا، لكن أحاول وضعه في سياقه.. لدينا، على ما أعتقد، أهداف جميلة للوصول إليها، وللوصول إلى هناك يجب أن تتحمل بعض الصدمات”.
تعتبر تنبؤات وكالة الطاقة الدولية مهمة، حيث تعتمد الحكومات وشركات البترول والمستثمرون على الوكالة كمصدر موثوق للمعلومات عن الطاقة العالمية لتوجيه سياساتهم واستراتيجياتهم.
لكن توقعاتها واجهت انتقادات في الماضي من نشطاء المناخ لعدم توقعها الانتشار السريع للطاقة المتجددة والآن تتعرض للهجوم من المدافعين عن الوقود الأحفوري لدعمها الزائد عن اللزوم للتحول إلى الطاقة النظيفة.
يؤكد بيرول، الذي تنتهي ولايته الثالثة كمدير تنفيذي في 2027، أن وكالة الطاقة الدولية تسير في الاتجاه الصحيح، حيث قال “أنا سعيد جدًا بالطريقة التي اخترناها لأن وكالة الطاقة الدولية تنمو والجمهور سعيد جدًا”.
وقال إن “الصفات التي نستخدمها تعتبر دلالة على الأرقام”، وذلك في إشارة إلى لغته حول فائض البترول.
وبحلول 2030، سيكون هناك فائض بترولي يومي يبلغ 8 ملايين برميل، و”هذا لم يحدث من قبل في التاريخ باستثناء فترة كوفيد. نحن نريد أن نسمي الأشياء بأسمائها ولا نخجل من ذلك”، وفقًا لبيرول.
كان التحول الذي شهدته وكالة الطاقة الدولية تحت قيادة بيرول دراماتيكياً، فقد أُنشئت الوكالة الحكومية بعد الحظر النفطي العربي الإسرائيلي في عام 1973 الذي أثار ارتفاع الأسعار.
وكانت مهمتها ضمان أمن الطاقة من خلال تقديم البيانات والتحليلات وإدارة احتياطي استراتيجي لأعضائها البالغ عددهم 16 دولة للاستجابة لحالات الطوارئ.
وسرعان ما أصبح تقريرها السنوي “توقعات الطاقة العالمية”، الذي يتنبأ بمشهد الطاقة حتى 2050، معياراً لصناع السياسات وشركات الطاقة.
بدأ بيرول، وهو اقتصادي انضم من “أوبك” في 1995، في توسيع وجهة نظر الوكالة العالمية عندما تولى أعلى منصب في 2015، وبدلاً من لندن أو باريس أو بروكسل، اختار أن يلقي خطابه الأول في بكين.
منذ ذلك الحين، ضمن الوكالة 15 دولة أخرى كأعضاء كاملين و13 كأعضاء منتسبين، وهذا يشمل الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا وجنوب أفريقيا، مما يمنحها بيانات داخلية عن 80% من نظام الطاقة العالمي ويسمح لها بتقديم نظرة شاملة على التحولات التكتونية الجارية.
ويقول بيرول إن شركات البترول التي تعارض توقعات الوكالة تحد من وجهة نظرها على المصادر الغربية، مضيفًا “لا يمكنك تجاهل ما يحدث في الصين”.
ولكن خلال الأعوام القليلة الأولى من ولايته، تمسك بيرول بتقاليد وكالة الطاقة الدولية، وأصدر توقعات رئيسية أطلق عليها “سيناريو السياسات الجديدة” الذي يستند إلى الوضع الراهن في عالم الطاقة، دون مراعاة التعهدات التي قطعتها البلدان في اتفاق باريس لعام 2016 بخفض الانبعاثات من أجل الحد من الانحباس الحراري العالمي إلى ما دون 2 درجة مئوية وبشكل مثالي إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.
هذا الأمر كان يناسب صناعة البترول بشكل جيد.
ففي 2017، كانت الوكالة لاتزال تتوقع أن يستمر الطلب على البترول أو الغاز في الارتفاع طوال الطريق حتى 2040 في جميع السيناريوهات، وكانت الشركات تدافع عن مشاريع جديدة للبترول والغاز بالإشارة إلى أرقام الوكالة.
وفي الوقت نفسه، اتهم نشطاء المناخ وكالة الطاقة الدولية بتقليل تقديرات نمو الطاقة المتجددة وإمكانية استبدالها للوقود الأحفوري.
“حتى اليوم، يميلون إلى أن يكونوا محافظين بشأن سرعة انخفاض تكاليف التكنولوجيا النظيفة وسرعة نمو نشرها”، وفقا لكينجسميل بوند، استراتيجي الطاقة في معهد روكي ماونتين، وهو معهد تفكير حول الاستدامة.
في 2018، انحرف بيرول عن مساره بعد صدور تقرير خاص من الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، الذي أوضح أن هدف الحد من الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية كان في خطر، وقرر أن قطاع الطاقة، المسؤول عن أكثر من ثلثي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، بحاجة ليس فقط إلى التحليل بل أيضًا إلى التوجيه.
يقول بيرول: “عقدت اجتماعًا مع زملائي وقلت لهم إننا بحاجة إلى تقديم خارطة طريق لكيفية تحويل قطاع الطاقة ليكون متوافقًا مع 1.5 درجة مئوية”.
في 2021، بعد أشهر من انخفاض استخدام الطاقة العالمي بسبب الجائحة، وعندما بدا أن إعادة تعيين عالمية قد تكون ممكنة، نشرت الوكالة تقريرًا عن طرق تحقيق صافي انبعاثات الكربون الصفري بحلول 2050.
استخدمت الشركات والناشطون والسياسيون معالم سيناريو الانبعاثات الصفرية، الذي شمل زيادة توليد الرياح والطاقة الشمسية أربعة أضعاف بحلول 2050، جميع السيارات الجديدة لتكون خالية من الانبعاثات بحلول 2035، وعدم فتح أي حقول بترول وغاز جديدة، لتكييف وتيرة الانتقال نحو الطاقة النظيفة.
كان التغيير في اتجاه وكالة الطاقة الدولية يشكل نجاحًا كبيرًا للوكالة.
يقول جريج موتيت، الباحث في مجال الطاقة الذي كتب تقريرًا في 2018 يدعو فيه وكالة الطاقة الدولية إلى مراعاة تغير المناخ بشكل أكبر في نماذجها: “لقد حققت وكالة الطاقة الدولية نجاحًا كبيرًا. لقد اكتسبت الكثير من المؤيدين وتم الاعتراف بقيادتها”.
وأضاف: “شعر الناس أنهم بحاجة إلى بعض الإرشادات حول ما يعنيه التوافق مع 1.5 درجة مئوية. ةعندما يكون هناك سؤال واضح حقًا، يبدأ الكثير من الناس في طرحه وكانت وكالة الطاقة الدولية هي العنصر الواضح للإجابة عليه”.
وتابع: “أسمع شكاوى شركات البترول وأوبك، لكن تغير المناخ هو بلا شك أكبر قضية تواجه صناعة الطاقة، لذا فإن فكرة أن وكالة الطاقة الدولية لا ينبغي أن تركز عليه وتكتفي بالنظر في إمدادات البترول هي أمر غريب للغاية”.
كما جلب تحول الوكالة فوائد مالية، فبينما ظلت ميزانيتها الأساسية، التي بلغت 61 مليون يورو في 2022، مستقرة بشكل عام، يدفع الأعضاء “مساهمات طوعية” مقابل المشورة بشأن الانتقال نحو الطاقة النظيفة، ويولد برنامج التحولات في الطاقة النظيفة التابع لوكالة الطاقة الدولية 20 مليون يورو إضافية سنويًا.
وتضاعف حجم وكالة الطاقة الدولية أكثر من الضعف بفضل الأموال الإضافية.
وفي الوقت نفسه، زاد عدد التقارير الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية بشكل كبير، ففي 2015، وهو عام تعيين بيرول، أصدرت الوكالة 37 تقريرًا فقط، وبحلول 2022، وصلت إلى ذروة بلغت 197 تقريرًا، أي أكثر من تقرير واحد كل يومين.
وتعتقد وكالة الطاقة الدولية أن تركيزها على التحول في مجال الطاقة تأكد في 2022، عندما غزت روسيا أوكرانيا وخسرت أوروبا معظم إمداداتها من الغاز.
وعززت الأزمة حجة الوكالة بأن أمن الطاقة والتحول من الوقود الأحفوري المستورد إلى الطاقة المتجددة المحلية يسيران جنباً إلى جنب.
يقول بيرول: “هناك نقاش حول ما إذا كان ينبغي على وكالة الطاقة الدولية اختيار أمن الطاقة أو تغير المناخ كأولويتها الرئيسية”.
وتابع: “عندما كنت طفلاً، كان جيراننا دائمًا يسألونني هذا السؤال المزعج: هل تحب والدتك أكثر أم والدك؟ والإجابة هي أنني أحب كليهما. لذلك أرفض الاختيار بين أمن الطاقة وتغير المناخ، بل سنركز على كليهما”، ولكن الآن، بعد عامين من ارتفاع أسعار البترول، أصبحت شركات البترول الكبرى غنية بالسيولة وتركز جهودها على ضخ مزيد من البترول وزيادة العوائد للمساهمين.
علقت بعض شركات النفط كل آمالها على احتجاز الكربون، بدلاً من خفض الإنتاج من أجل تحقيق أهدافها الصفرية الصافية، وهي سياسة وصفها بيرول بأنها “وهم” قبل مفاوضات المناخ كوب 28 الذي عقد العام الماضي.
تضغط الصناعة بشدة ضد توقعات وكالة الطاقة الدولية، قائلة إنها تلعب “لعبة خطيرة” قد تؤدي إلى ارتفاع في أسعار الطاقة إذا قامت الشركات حقًا بتقليص أنشطتها.