بعد فترة طويلة من الركود، بدأت الآفاق الاقتصادية لباكستان تظهر بعض علامات التفاؤل.
ففي أواخر أغسطس، رفعت وكالة التصنيف الائتماني “موديز” التصنيف السيادي للبلاد من “سي أيه أيه 3” إلى “سي أيه أيه 2″، مع تغيير النظرة المستقبلية من مستقرة إلى إيجابية، وذلك بعد خطوة مشابهة من وكالة “فيتش”.
هذا الوميض النادر من التفاؤل يعكس تزايد الثقة الدولية في قدرة باكستان على مواجهة أزماتها المالية ووضع الأسس لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
وتأتي هذه الخطوة في توقيت هام، إذ تزامنت مع قرب موافقة صندوق النقد الدولي على تسهيل ائتماني ممتد بقيمة 7 مليارات دولار، حسب ما أوضحته مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
كما أن المحللين يعتبرون أن هذه الخطوة تشير إلى أن المؤسسات العالمية بدأت تستعيد الثقة في الإدارة المالية لباكستان.
بدأت آثار هذا التصنيف تظهر بوضوح، حيث شهدت الروبية الباكستانية تحسناً، وهو مؤشر واضح على أن توفر العملات الأجنبية يظل جوهر المصاعب الاقتصادية في البلاد، كما استجاب سوق الأسهم بشكل إيجابي لثقة “موديز” المتجددة.
لكن هناك معضلة تكمن في أن تخفيض التصنيف يرفع تكاليف الاقتراض، مما يزيد من تعقيد مشكلة الديون، بينما يوفر رفع التصنيف بصيص أمل.
ومن المفترض أن يسمح هذا التصنيف الجديد لباكستان بالحصول على قروض بشروط أكثر ملاءمة، وهو أمر حاسم لدولة تعاني من مخاطر كبيرة في استدامة ديونها.
ومع ذلك، فإن اعتراف “موديز” بتراجع مخاطر التخلف عن السداد يقابله واقع صارخ، وهو أن مدفوعات الفائدة ستظل تستنزف ما يقرب من نصف إيرادات الحكومة خلال العامين إلى الثلاثة أعوام المقبلة.
كما أن تأكيد “موديز” على انحسار مخاطر التخلف عن السداد– وإن لم تختفِ– يساعد على تهدئة المقارنات المثيرة للقلق مع الانهيار الاقتصادي الأخير في سريلانكا.
ويرى بعض المحللين أن هذا التصنيف يهيئ باكستان لإعادة دخول الأسواق المالية الدولية بشروط أفضل.
ومن الممكن أن يساعد إصدار السندات الأوروبية و”سندات الباندا” بأسعار تنافسية في خفض تكاليف الاقتراض وتخفيف الضغط على خدمة الدين، مما يخلق المجال المالي اللازم لتحقيق الانتعاش الاقتصادي.
ورغم أن الموافقة المتوقعة على قرض صندوق النقد الدولي قد توفر بعض الارتياح، فمن الواضح أن هذا لن يؤدي إلى جولة جديدة من رفع التصنيفات.
وبالنسبة لدافعي الضرائب في باكستان، فإن تخفيف تكاليف الاقتراض من الأسواق العالمية يأتي بطعم مر، إذ يعني المزيد من الاقتراض حتماً المزيد من الديون، وهذه الأعباء تقع بشكل مباشر على كاهلهم.
المقياس الحقيقي للصحة الاقتصادية سيكون عندما يعكس رفع التصنيف اقتصاداً مزدهراً وليس مجرد حاجة ماسة لشروط اقتراض أفضل، لكن “موديز” و”فيتش” على حد سواء أكدتا على الشكوك المستمرة حول قدرة باكستان على الاستمرار في تنفيذ الإصلاحات الضرورية.
ويبدو أن هذا الحذر مبرر، خصوصاً في ظل الحكومة الائتلافية التي يقودها رئيس الوزراء شهباز شريف، والتي تشكلت بعد انتخابات فبراير.
ومع وجود تفويض انتخابي هش، قد تجد الحكومة صعوبة في تنفيذ إجراءات زيادة الإيرادات دون إثارة اضطرابات اجتماعية، وهذا الوضع الحرج قد يؤدي إلى تأخير أو حتى سحب الدعم المالي الضروري من الشركاء الدوليين.
مثل هذه المخاطر تزيد من حالة عدم اليقين التي تواجه الاستثمار في باكستان، كما أن التأخيرات المحتملة في تنفيذ الإصلاحات قد تعرض الدعم المالي المتعدد الأطراف والثنائي للخطر، مما يرفع من مخاطر الاستثمار.
على مدى عقود، كانت باكستان عالقة في حلقة مفرغة من الديون، حيث بلغ دينها الخارجي حالياً حوالي 130 مليار دولار.
وبحلول نوفمبر المقبل، تواجه البلاد تحدياً هائلاً بسداد 27.47 مليار دولار من الديون الخارجية، في حين لا تتجاوز احتياطاتها من النقد الأجنبي 14.57 مليار دولار.
وتتمثل استراتيجية الحكومة لمواجهة هذه الأزمة الوشيكة في السعي للحصول على المزيد من القروض من صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية والدول الصديقة.
وتتفاقم المشاكل الاقتصادية لباكستان بسبب نموذج النمو الذي يعتمد بشكل غير متناسب على الاستهلاك، إذ يؤدي هذا النموذج إلى زيادة حادة في الواردات كلما ارتفع النمو الاقتصادي، مما يعمق العجز التجاري للبلاد.
وفي عام 2024، بالرغم من السياسات الحكومية الصارمة، بلغت صادرات باكستان 30.65 مليار دولار، بينما بلغت الواردات 54.71 مليار دولار، مما أسفر عن عجز تجاري قدره 24.06 مليار دولار.
وما دامت الحكومة تواصل الكفاح لتحقيق التوازن بين النمو المستدام وضغوط العجز المتزايد، سيظل استقرار باكستان الاقتصادي هشاً.
ومن دون إصلاحات هيكلية كبيرة، ستبقى البلاد عرضة للدوران في دائرة من الاقتراض وعدم الاستقرار الاقتصادي، مما يترك مجالاً ضئيلاً للتفاؤل في المستقبل القريب.
في الوقت ذاته، تواجه باكستان اختباراً حاسماً مع تكثيف الحكومة جهودها لتوسيع قاعدة الضرائب لتشمل قطاعات الجملة والتجزئة.
هذه المبادرة، التي تعد جزءاً من الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي، أثارت احتجاجات واسعة وإضرابات بين التجار.
وعلى الرغم من المقاومة، يبدو أن الحكومة مصممة على المضي قدماً، مدفوعة بالحاجة الملحة لتحسين نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي التي تقل عن 8.5%.
ومع تفويض انتخابي هش، لا يمكن للحكومة أن تتحمل الانحراف عن الإصلاحات التي أوصى بها صندوق النقد الدولي، لا سيما فيما يتعلق بإجراءات زيادة الإيرادات.
الامتثال لهذه الإصلاحات أمر حاسم لتأمين مراجعات صندوق النقد في الوقت المناسب، وإطلاق التمويل الأساسي من الشركاء الدوليين، وتعزيز احتياطيات باكستان من النقد الأجنبي.
رغم أن اقتصاد باكستان حقق تقدماً كبيراً خلال العام الماضي، فإنه لا يزال يعتمد بشكل كبير على الدعم الخارجي، وهذا يبرز كيف أن الطريق أمامه محفوف بالمخاطر، وأي خطوة خاطئة قد تعرض التقدم الهش الذي تحقق حتى الآن للخطر.