فى مشهد المنافسة الحادة فى صناعة البث الرقمى، تشكّل رحلة “نتفليكس” من الصعود الصاروخى إلى التراجع المؤقت، ثم الانتعاش من جديد، دراسة مثيرة فى استراتيجيات الشركات والقدرة على التكيف، بحسب تقرير لصحيفة فاينانشال تايمز.
الشركة، التى أحدثت ثورة فى المحتوى الترفيهي، واجهت انتكاسات كبيرة فى عام 2022، مما أدى إلى فترة من عدم الاستقرار أصبحت تُعرف باسم “التصحيح الكبير لنتفليكس”.
فقدت الشركة جزءًا كبيرًا من مشتركيها، ما أحدث ضجة فى “وول ستريت” وأثار الشكوك حول مستقبلها. وحاولت شركات منافسة “ديزني+” و”ماكس” التابعة لشركة “وورنر براذرز ديسكفري” و”باراماونت+” استغلال ضعف “نتفليكس” خلال هذه الفترة.
وزادت هذه الضغوط من حدة الشكوك، حتى مع بدء “نتفليكس” إعادة ضبط استراتيجيتها.
وبدلاً من أن يكون “التصحيح الكبير” بداية لانحدارها، مثّل هذا التحول لحظة استراتيجية للشركة.
ريد هاستينجز، الشريك المؤسس لـ”نتفليكس”، الذى كان معروفًا بتجنب استراتيجيات معينة لتعزيز الإيرادات، قام بتحوّل كبير فى توجهه.
لسنوات، كانت “نتفليكس” ترفض تبنى استراتيجيتين رئيسيتين، وهما التضييق على مشاركة كلمات المرور وإدخال الإعلانات.
ومع تراجع قاعدة المشتركين، أدرك هاستينجز الحاجة إلى التغيير، وطبّق هذه الأفكار التى كان قد رفضها سابقًا.
كان اتخاذ خطوات لتقييد مشاركة كلمات المرور قرارًا جريئًا أثّر على ملايين المستخدمين الذين اعتادوا مشاركة الحسابات مع الأصدقاء والعائلة.
فى البداية، ساد التشكيك حول ما إذا كان هذا سيؤدى إلى فقدان المزيد من المشتركين، ولكن حدث العكس. فإجراءات تقييد مشاركة كلمات المرور التى تم إطلاقها فى مايو 2023 أثبتت أنها خطوة ناجحة عززت نمو مشتركى “نتفليكس” بزيادة قدرها 45 مليون مشترك إضافى.
ونتيجة لذلك، انتعشت أسهم الشركة بشكل كبير، حيث ارتفعت بنسبة تفوق 300% عن أدنى مستوياتها بعد التصحيح، ووصلت إلى مستويات قياسية جديدة.
ولم يكن التحول الاستراتيجى مقتصرًا على هاتين الخطوتين فحسب، فى تلك الفترة، توسعت “نتفليكس” فى مجالات جديدة لتنويع مصادر دخلها.
وكان من بين هذه المجالات إطلاق فئة اشتراك مدعومة بالإعلانات، التى أُطلقت فى 12 دولة بحلول نهاية عام 2022.
كما توسعت الشركة فى الألعاب الإلكترونية، وهى قسم ناشئ يظهر إمكانيات كبيرة للنمو، إذ تسعى الشركة إلى إبقاء المستخدمين متفاعلين خارج حدود المحتوى التقليدي.
كما بدأت “نتفليكس” فى تطوير “تجارب حية” مرتبطة بمسلسلاتها الشهيرة مثل “بريدجيرتون” و”سترانجير ثينجز” و”سكويد جيم”، تتيح هذه الفعاليات للمشاهدين فرصة التفاعل مع العروض المفضلة لديهم بطرق جديدة ومبتكرة تجمع بين الترفيه والتسويق التجريبي.
وجاء تقاعد هاستينجز فى عام 2023 كبداية لحقبة جديدة من القيادة، حيث تم تعيين جريج بيترز، وهو مدير تنفيذى متمرس فى “نتفليكس” يتمتع بخلفية تكنولوجية، كمدير تنفيذى مشارك إلى جانب تيد ساراندوس.
وعلى الرغم من هذا التغيير الكبير فى القيادة، وُصف هذا الانتقال من قبل المحللين بأنه أحد أكثر التحولات سلاسةً على الإطلاق.
وساهم الثنائى بيترز وساراندوس فى الحفاظ على زخم “نتفليكس”، ما سمح للشركة بمواصلة أدائها المتميز دون أى تراجع ملحوظ فى الأداء أو المعنويات.
بينما استعادت “نتفليكس” توازنها، كانت استوديوهات هوليوود التقليدية تواجه صعوبة فى التكيف مع المشهد الجديد الذى يهيمن عليه البث الرقمي.
وكانت “ديزني+” الخدمة الوحيدة من بين الاستوديوهات التقليدية التى تمكنت من تحقيق أرباح فى السنوات الأخيرة.
أما الاستوديوهات الأخرى، مثل “وورنر براذرز ديسكفري”، و”بيكوك” التابعة لشركة “كومكاست”، و”باراماونت+”، فاستمرت فى خسارة الأموال رغم الاستثمارات الكبيرة التى ضختها فى منصاتها.
فى الواقع، أدت الضغوط المالية إلى تغييرات كبيرة، مثل قرار شارى ريدستون ببيع “باراماونت” بعد أن كانت عائلتها تديرها لعقود.
كما حث المحللون إدارة “وورنر براذرز ديسكفري” على استكشاف خيارات استراتيجية أخرى، مشيرين إلى أن نموذج أعمالهم الحالى غير مستدام.
وانعكست هذه التحديات المالية على القوى العاملة الإبداعية فى هوليوود.
ومع استمرار معاناة الاستوديوهات التقليدية فى تحقيق الأرباح من البث، انتشرت عمليات تسريح العمال وخفض الميزانيات الإنتاجية.
كما أدت الظروف الاقتصادية الجديدة فى قطاع البث إلى تفاقم آثار إضرابات الكتّاب والممثلين، الذين كانوا يأملون فى حدوث انتعاش لم يتحقق فى النهاية.
وعبّر أحد الكتّاب التلفزيونيين المخضرمين عن المزاج المتدهور فى هوليوود موضحًا أن الصناعة تشعر كما لو كانت “تنزف”، وأن الآفاق الوظيفية تبدو قاتمة بالنسبة للعديد من المهنيين.
ولقد غيّرت هيمنة “نتفليكس” الديناميكيات التقليدية لإنتاج المحتوى، ما أثار الإعجاب والانتقادات على حد سواء من داخل الصناعة.
فبالنسبة للكثيرين فى هوليوود، تمثل “نتفليكس” هيمنة جديدة من نوعها.
حيث يجادل النقاد بأن “نتفليكس” قد غيرت جذريًا اقتصاديات صناعة الترفيه، خاصة من خلال القضاء على نظام المشاركة المالية المعروف بـ”الباك إند”، الذى كان يسمح للمخرجين والممثلين بالمشاركة فى أرباح الأفلام الناجحة.
وقد أدى هذا التغيير فى نموذج الإيرادات إلى توترات بين “نتفليكس” والأعضاء التقليديين فى هوليوود، حيث يرى البعض أن هيمنة الشركة تخنق المجال.
ووصف أحد المديرين التنفيذيين المجهولين فى شركة ترفيهية كبرى الأمر بأن “نتفليكس” “تسيطر على كل شيء، ولا أحد يقترب حتى منها”.
وعلى الرغم من هذه الانتقادات، لا يبدو أن هيمنة “نتفليكس” تتراجع فى الوقت الحالي.
على الرغم من أن هاستينجز بدا وكأنه اتخذ خطوات عفوية عندما أعلن عن تقييد مشاركة كلمات المرور وبيع الإعلانات، إلا أن الواقع كان مختلفًا.
فقد ناقش هاستينجز وبيترز هذه الأفكار لسنوات، وعندما أصبحت الحاجة واضحة لتثبيت وضع “نتفليكس”، نفّذا تلك التغييرات بسرعة.
وكان بيترز، الذى لعب دورًا رئيسيًا فى إطلاق هذه المبادرات، قد اعتمد على خلفيته التكنولوجية لقيادة الاختبارات المبدئية لتقييد مشاركة كلمات المرور فى أسواق مثل كوستاريكا وبيرو قبل أن يتم إطلاقها عالميًا.
وإحدى أعظم نقاط قوة “نتفليكس” هى قدرتها على جذب انتباه المشاهدين. على الرغم من المنافسة المتزايدة من الاستوديوهات الهوليوودية والمنصات الرقمية الأخرى، لا تزال “نتفليكس” تهيمن على جزء كبير من المشهد الإعلامى الأمريكي.
وفقًا لتقارير “نيلسن”، استحوذت “نتفليكس” على حوالى 8.4% من وقت المشاهدة فى الولايات المتحدة اعتبارًا من يوليو 2024، متفوقة بكثير على أقرب منافسيها “ديزني”، الذى بلغت حصته بين خدمات “ديزني+” و”هولو” مجتمعة 4.8%. أما خدمات البث التى تديرها الاستوديوهات التقليدية الأخرى، مثل “ماكس” و”بيكوك”، فلم تتجاوز حصتها 2%.
وهذا المستوى من التفاعل هو مؤشر رئيسى بالنسبة لـ”نتفليكس”، إذ يجادل المحللون بأن ولاء المشاهدين سيقود مستقبل إيرادات الإعلانات.
وعلى الرغم من تحقيق “نتفليكس” تقدمًا ملحوظًا، إلا أن المحللين ينظرون بالفعل إلى المرحلة التالية من النمو.
وأحد المجالات الرئيسية التى تركز عليها “نتفليكس” هو الأعمال الإعلانية، التى تعد واعدة ولكنها لن تكون مساهمًا رئيسيًا فى الأرباح حتى عام 2026 على الأقل.
وفى أيامها الأولى، تعاونت “نتفليكس” مع “مايكروسوفت” لإدارة إعلاناتها، لكنها أعلنت لاحقًا عن خطط لتطوير منصة إعلانية داخلية، مما يمنحها سيطرة أكبر على نظام الإعلانات.
وتشير هذه الخطوة إلى التزام “نتفليكس” الطويل الأمد بدمج الإعلانات كجزء أساسى من نموذج أعمالها.
بدأت “نتفليكس” مؤخرًا طرح خطة الاشتراك المدعومة بالإعلانات فى المزيد من الدول، حيث تخطط للتوسع فى الأسواق الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وإيطاليا.
ويقول المحللون إن هناك مساحة كبيرة للنمو فى سوق الإعلانات، الذى من المتوقع أن يصبح رافدًا رئيسيًا لدخل الشركة.
مع ذلك، هناك تحديات أمام “نتفليكس” أيضًا، فعلى الرغم من الانتعاش الكبير فى عدد المشتركين والأداء المالى للشركة، فإنها لا تزال تواجه تحديات فى أسواق معينة مثل الهند، حيث لم تنجح فى اكتساب حصة سوقية كبيرة حتى الآن.
كتبت .. فرح طارق