تجلت التأثيرات السلبية على اقتصاد إسرائيل بشكل واضح، كجبهة خاسرة في الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، والتي أتمت اليوم عامها الأول، وسط فشل القيادة الإسرائيلية في معالجة تلك التداعيات على الاقتصاد منذ ردود أفعالها الأولى.
فمنذ السابع من أكتوبر 2023، برز الوضع الاقتصادي كأكبر تحدٍ نظراً لعجز الأنظمة الإسرائيلية الحالية في تلبية الاحتياجات وسط انشغالها بالصراعات العسكرية في غزة وتوسعه إلى جنوب لبنان دون أفق للنهاية.
وذكر تقرير نشرته صحيفة (جيرواليزم بوست) الإسرائيلية أن الجبهة الاقتصادية لا تقل تهديدًا عن أي جبهة تقاتل عليها إسرائيل عسكريًا؛ “فلا يمكن لأي دولة أن تعمل دون اقتصاد قوي بما يكفي لدعمها، متمثلا في نظام طبي ورعاية اجتماعية ونظام تعليمي جيد يلبي احتياجات مواطنيه؛ ورغم أن هذه ليست جبهة جديدة، فقد ظل خبراء الاقتصاد يصدرون التحذيرات لسنوات طويلة، في حين كان الساسة يؤجلون التغييرات الضرورية إلى وقت لاحق إلا أن الحرب على قطاع غزة أدت إلى تهدئة الاحتراق البطيء للتهديدات الاقتصادية الوجودية التي تواجهها إسرائيل؛ ما يهدد بتفجير العجز وإلحاق الضرر بثقة المستثمرين في البلاد بشكل لا يمكن إصلاحه”.
وقال البروفيسور بجامعة تل أبيب ورئيس مؤسسة شوريش الاسرائيلية المختصة في التمكين الاقتصادي، دان بن ديفيد، إن “أولويات الميزانية القطاعية في إسرائيل وسياسات المصالح الضيقة ساهمت في الفجوة الإنتاجية بينها وبين دول مجموعة السبع الأخرى والتي تضاعفت ثلاث مرات منذ منتصف السبعينيات”، مشيراً إلى أن إسرائيل لا تواكب البلدان التي تريد مقارنتها بها من حيث نموها الاقتصادي.
ولفت التقرير إلى أن السياسات الحمائية والتنظيم غير الفعال والافتقار إلى البنية الأساسية العامة هي أيضًا من بين التحديات الاقتصادية التي تواجهها إسرائيل، فتواجه الانزلاق إلى حلقة مفرغة نظرا لتأخير إصلاح الأنظمة غير الفعّالة ما يؤدي إلى إبطاء النمو؛ فحوالي 50 بالمائة من الإسرائيليين لا يدفعون ضريبة الدخل لأنهم لا يكسبون ما يكفي للوصول إلى أدنى مرتبة على سلم الضرائب، بينما يدفع 20 بالمائة فقط إجمالي ضريبة الدخل.
ويوقف اتساع نطاق الحرب الإسرائيلية إلى جنوب لبنان أي تأثير إيجابي على سعر صرف العملة المحلية /الشيكل/، حيث بلغ سعر صرف الدولار أمامه 3.8 شيكل، رغم خفض الفائدة في الولايات المتحدة إلى مستويات أقل من نظيرتها في إسرائيل.
وفي عام “طوفان الأقصى”، تضررت بورصة تل أبيب بشدة نتيجة للتوترات الأمنية والسياسية، فخلال الأسبوع الأول من التصعيد، تراجع مؤشر “TA-35″، الذي يضم أكبر 35 شركة في البورصة الإسرائيلية، بنسبة 6.5 بالمائة، وهو أكبر انخفاض له منذ سنوات.
كما تأثرت قطاعات رئيسية بشكل ملحوظ، فعلى سبيل المثال، سجل قطاع التكنولوجيا انخفاضًا بنسبة 8 بالمائة، بينما تراجعت أسهم البنوك بنسبة 7.2 بالمائة، حيث فقدت إجمالي قيمة السوق المالية الإسرائيلية ما يقارب 150 مليار شيكل (حوالي 40 مليار دولار) من قيمتها في أسابيع قليلة فقط، ما دفع المستثمرين للتراجع عن الاستثمار وتسبب ذلك في تزايد الضغوط على الاقتصاد الإسرائيلي.
ويتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الاسرائيلي، وفق تقارير دولية، بنسبة تصل إلى 10 بالمائة بنهاية 2024، بالإضافة إلى توقعات عجز الموازنة إلى نحو 15 بالمائة، وأن تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى ما بين 80 بالمائة و85 بالمائة؛ ما سيكون لهذا الوضع تأثير طويل الأجل مشابه للتداعيات الاقتصادية التي شهدتها إسرائيل خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، مما يعقد قدرة إسرائيل على جذب رأس المال والاستثمار.
فأنشطة صناديق رأس المال الاستثماري التي تُمول الشركات الناشئة والواعدة في مراحلها المبكرة مقابل حصة في الملكية بهدف تحقيق عوائد مالية عالية من خلال بيع هذه الحصص بعد تقدم ونمو الشركة، منيت بخسائر حادة خلال النصف الأول من عام 2024 في إسرائيل، بحسب (جيرواليزم بوست).
وخلال الأشهر الستة الأولى من 2024، جمعت عشرة صناديق استثمارية رأسمال بلغ إجماليه 544 مليون دولار مقارنة بجمع 27 صندوقًا في عام 2023 مبلغًا قدره 1.6 مليار دولار؛ بحسب تقرير صادر عن معهد “إي في سي” المختص في أبحاث رأس المال الاستثماري بإسرائيل وشركة جورنيتسكي الإسرائيلية وشركة “كي بي إم جي” المختصة في الاستشارات المالية.
وتحت وطأة الحرب، كشفت بيانات لبنك إسرائيل المركزى عن تجاوز ملايين الإسرائيليين حدود الأمان بحسابتهم البنكية بسبب عمليات “السحب على المكشوف”، ما يعكس أزمة ثقة متنامية فى الاستقرار المالى للأسر الإسرائيلية.
فيواجه نحو 2.5 مليون إسرائيلي، أي ما يقرب من 40 بالمائة من السكان البالغين أزمة “السحب على المكشوف” وهو تسهيل يقدمه البنك يسمح للعميل بسحب أموال أكثر من رصيده الحالي لكنه يأتي مع فوائد مرتفعة على المبالغ المسحوبة حيث بلغ إجمالي الديون الناتجة عن السحب على المكشوف 10.7 مليار شيكل، أي ما يعادل 2.9 مليار دولار تحت وطأة الاضطرابات الاقتصادية المتزايدة في إسرائيل، الدولار يساوي 3.6 شيكل.
فتكاليف الحرب تضغط على إسرائيل، وكانت قد كشفت وزارة المالية الإسرائيلية عن مشروع قانون “الترتيبات الاقتصادية” سيتم إرفاقه بميزانية العام المقبل 2025، تضمن فرض ضرائب جديدة على أرباح البنوك بخلاف خصخصة ميناء أشدود – الوحيد المملوك للحكومة – وقرارات تقشفية أخرى.
واقترح المشروع فرض ضريبة خاصة على البنوك في عام 2026 بسبب الأرباح التي تحققها، كما تضمن مشروع القانون مقترح إغلاق خمس وزارات زائدة عن الحاجة من بين 31 وزارة، بالإضافة إلى تشديد الرقابة على ميزانية الدفاع خاصة فيما يتعلق بالرواتب والمعاشات والاتفاقيات الكبرى مع البلديات لتعزيز سرعة بناء المساكن.
وذكرت الصحيفة أن مشروع القانون يتضمن إصلاحات بوزارة المالية للعام المقبل وتشمل مجالات التمويل والعقارات والشركات الحكومية؛ لكنه لا يتضمن تجميد شرائح ضريبة الدخل أو معاشات وتأمينات الضمان الوطني، حيث سيتم التعامل مع هذه القضايا بشكل منفصل.
كما كشفت وزارة المالية الإسرائيلية في مشروع القانون عن خططها لخصخصة ميناء أشدود، وأنه من المقرر أن يتم تشكيل لجنة بين الوزارات لتسريع عملية بيع أسهم الميناء وستقدم اللجنة اقتراح الخصخصة إلى وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي دافيد أمسالم خلال 60 يومًا على أن يتم تقديم الاقتراح إلى اللجنة الوزارية للخصخصة في غضون 90 يومًا.
ويقترح المشروع أيضًا عدم السماح للوزراء بالتدخل في توزيع أرباح الشركات الحكومية وتعديل قانون الشركات الحكومية لتسهيل تحويل الأرباح إلى خزينة الدولة.
وأضاف أن مشروع قانون الترتيبات الاقتصادية، الذي سيتم إرفاقه بميزانية العام المقبل 2025، سيعتمد أسبوعا دراسيا من خمسة أيام بدلاً من ستة في النظام المدرسي الحكومي، بحيث يتماشى مع أسبوع العمل ، ما يساعد النظام التعليمي في مواجهة نقص المعلمين.
وتعود أسباب ارتفاع العجز الحكومي الذي سجلته وزارة المالية الإسرائيلية إلى الزيادة في الإنفاق الحكومي التي حدثت في أكتوبر من العام الماضي بسبب الحرب على قطاع غزة؛ فتكلفة الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة هي الأكثر كلفة بين جميع الحروب الإسرائيلية السابقة، إذ تشير تقديرات سابقة للبنك المركزي الإسرائيلي إلى أنها ستتجاوز 100 مليار دولار بحلول 2025.
وقد تم إعداد ميزانية إسرائيل المعدلة لعام 2024، حول عجز مالي متوقع بنسبة 6.6 بالمائة، ووفق البنك المركزي الإسرائيلي تراجع احتياطي النقد الأجنبي في البلاد نهاية أبريل الماضي حوالي 5.63 مليار دولار حيث وصل إلى 208 مليارات، كما تراجعت الاحتياطيات بحوالي 41 بالمائة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي.
ومن بين التحديات الوجودية الموجودة تحت السطح وتصل إلى درجة الغليان في إسرائيل هي الهجرة؛ فأول من يغادر بلدًا تتدهور فيه نوعية الحياة هم أولئك الذين لديهم التعليم والمهارة للحصول على فرص جيدة في الخارج (هؤلاء الأشخاص الذين سيشعر الاقتصاد بغيابهم بسرعة) ففي عام 2022، كان هناك 44 ألفا و840 طبيبًا مسجلاً منهم 33 ألف فقط تحت سن 67 عامًا، وهذا يوضح مرة أخرى كيف يمكن للهجرة أن يكون لها تأثير كبير على قدرتها لتقديم الخدمات لمواطنيها.
أما عن المشهد العالمي، فقامت معظم وكالات التصنيف الائتماني العالمية بتخفيض تصنيف إسرائيل أكثر من مرة، فمن جانبها خفضت وكالة “موديز” التصنيف الائتماني لإسرائيل للمرة الثانية خلال عام.. محذرة من مخاطر ارتفاع تكاليف نفقات الحرب على غزة وتفاقم الأزمة الاقتصادية في إسرائيل.. وخفضت “موديز” التصنيف الائتماني لإسرائيل بمقدار، درجتين من A2 إلى Baa1 ، مشيرة إلى مخاوف اقتصادية حادة واستجابة غير كافية من الحكومة للتكاليف المتزايدة للحرب، محذرة من أن العجز المتوقع لعامي 2024 و2025 سيتجاوز بشكل كبير الأهداف المحددة.
كما خفضت وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيفات الائتمانية مطلع أكتوبر الجاري، تصنيف إسرائيل على المدى الطويل من A+ إلى A، وأرجعت القرار إلى المخاطر الأمنية المتزايدة في ضوء التصعيد الأحدث في الصراع مع “حزب الله” اللبناني؛ وغيرت الوكالة نظرتها المستقبلية لاقتصاد إسرائيل إلى سلبية، مشيرة إلى أنها تعكس أيضا خطر اندلاع حرب أكثر مباشرة مع إيران.
وذكرت (جيروزاليم بوست)، في الختام، أنه “وسط التحديات الجسيمة للاقتصاد الإسرائيلي وحالة عدم اليقين يتطلب الوضع استجابة سريعة من حكومة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، لتخفيف حدة التوترات، فالأضرار الاقتصادية الناتجة عن النزاع لا تقتصر على الأرقام فحسب، بل تلقي بظلالها على حياة المواطنين واستقرارهم المالي؛ وفي حال استمرار الوضع على هذا النحو، فإن إسرائيل قد تواجه أزمة اقتصادية عميقة قد تمتد لعقود”.