تواجه السياسات المالية عبر أوروبا تحديات كبيرة؛ فحكومتا بريطانيا وفرنسا ترفعان الضرائب بشكل حاد، بينما تعاني ألمانيا من قيود دين فرضتها على نفسها، وتستمر الاقتراضات المفرطة لإيطاليا في ازعاج المستثمرين.
أما أيرلندا فتواجه مشكلة مختلفة تماماً، حيث تمتلك الحكومة فائضاً كبيراً من الأموال، لدرجة أنها لا تعرف كيفية التصرف به.
في سبتمبر الماضي، أصدرت محكمة العدل الأوروبية حكماً في نزاع قانوني طويل الأمد حول استفادة شركة “أبل” من ثغرات ضريبية غير عادلة (وقد تم إغلاقها الآن) في النظام الضريبي الأيرلندي، حسب ما أوضحته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.
ونتيجة لهذا الحكم، ستضطر الشركة التقنية الأمريكية لتسليم 13 مليار يورو (14 مليار دولار) إلى السلطات الضريبية الأيرلندية، بجانب أكثر من مليار يورو كفائدة، وهو مبلغ يعادل 4.8% من الدخل الوطني السنوي لأيرلندا.
وهذا أثار دهشة الحكومات التي تعاني من نقص الأموال، حيث ساندت السلطات الأيرلندية شركة “أبل” في نزاعاتها مع محاكم أوروبا، بحجة أن الشركة لم ترتكب أي خطأ.
يسجل الاقتصاد الأيرلندي أداءً استثنائياً، إذ من المتوقع أن ينمو الدخل القومي المعدل، الذي يأخذ بعين الاعتبار التشوهات الناتجة عن العدد الكبير من الشركات متعددة الجنسيات الموجودة في البلاد، بنسبة 4.9% هذا العام و2.7% في عام 2025.
ويبلغ معدل البطالة 4.3% فقط، فيما انخفض معدل التضخم إلى أقل من 2%.
كانت الوضعية المالية للحكومة قوية بالفعل قبل زيادة عائدات الضرائب من “أبل”، حيث سجلت الحكومة فائضاً في الأعوام 2022 و2023، وكانت تتوقع فائضاً آخر هذا العام.
ويتوقع الوزراء الآن فائضاً بنسبة 7.5% من الدخل القومي هذا العام و2.9% في عام 2025، رغم زيادة الإنفاق وخفض الضرائب.
منذ الخمسينيات، تقدم أيرلندا معدلات ضرائب تنافسية للشركات لجذب الاستثمارات الأجنبية.
وحتى في وقت تم فيه تقليص المزايا الاجتماعية بشكل حاد وزيادة الضرائب الأخرى خلال أزمة اليورو في أوائل 2010، تم الإبقاء على ضريبة الشركات عند نسبة سخية تبلغ 12.5%.
وحققت هذه الاستراتيجية مكاسب كبيرة في السنوات الأخيرة؛ ففي عام 2015 كانت إيرادات ضرائب الشركات تبلغ 7 مليارات يورو، وارتفعت العام الماضي إلى 24 مليار يورو.
وتتوقع وزارة المالية أن تصل الإيرادات إلى 30 مليار يورو سنوياً بحلول أواخر عشرينيات هذا القرن.
ووافقت الحكومة في عام 2021 على رفع معدل ضريبة الشركات، كجزء من اتفاقية شملت أكثر من 140 دولة لتحديد حد أدنى عالمي للضريبة.
لكن الزيادة كانت متواضعة؛ حيث أصبح المعدل الجديد 15% ودخل حيز التنفيذ هذا العام للشركات الكبرى.
هناك سببان رئيسيان لزيادة الإيرادات الضريبية.
ففي منتصف العقد الثاني من الألفية، قامت بعض أكبر شركات التقنية الأمريكية بإعادة تنظيم ترتيباتها الضريبية بعد انتقادات من الحكومات الأوروبية لاستخدامها ثغرات.
وتحت الضغط لنقل الأرباح المعلنة إلى دول توجد بها عمليات كبيرة وليست مجرد مكاتب صورية بعدد قليل من الموظفين، اختارت العديد من الشركات أيرلندا.
كما أن قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي في عام 2016 زاد من جاذبية البلاد للشركات الأمريكية، حيث أصبحت أيرلندا العضو الوحيد الناطق بالإنجليزية في السوق الأوروبية الموحدة.
يدرك صُناع السياسات الأيرلنديون أن القاعدة الضريبية ضيقة بالرغم من غناها.
ففي عام 2022، شكلت عشر شركات فقط ثلاثة أخماس إيرادات ضريبة الشركات.
علاوة على ذلك، بلغت نسبة ضريبة الشركات 27% من إجمالي الإيرادات ذلك العام، أي أكثر من ضعف المتوسط في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.
وباعتراف الحكومة بهذه الهشاشة، تخطط للتعامل مع أرباح “أبل” غير المتوقعة بالطريقة التي تعاملت بها النرويج مع عائدات البترول في بحر الشمال، والتي جرت من خلال إنشاء صندوق سيادي.
وسيتم إنشاء صندوقين منفصلين، ويأمل الوزراء أن تصل قيمتهما المجمعة إلى 100 مليار يورو بحلول عام 2040، ليتم بعدها الإنفاق من الدخل المتولد.
هناك أيضاً مجال لتقديم حوافز، حيث إنه من المتوقع إجراء انتخابات في وقت مبكر من العام المقبل، وقد تضمن الميزانية الأخيرة بعض الهدايا.
في حين تنسحب معظم وزارات المالية الأوروبية من دعمها الذي تم تقديمه خلال صدمة أسعار الطاقة 2021-2023، ستحصل الأسر الأيرلندية على ائتمان طاقة بقيمة 250 يورو هذا الشتاء.
كما تم رفع إعانات الأطفال وزيادة حدود ضريبة الدخل. وتم زيادة الاستثمار العام في البنية التحتية بمبلغ 3 مليارات يورو.
المشكلة التي تواجه صناع القرار الأيرلنديين هي قلة المرونة في الاقتصاد.
سيواصل البنك المركزي الأوروبي خفض أسعار الفائدة استجابة للظروف القاتمة في بقية أنحاء القارة.
كما أن سوق العمل في أيرلندا ضيقة بالفعل، وأي تحركات إضافية من الحكومة لخفض الضرائب أو زيادة الإنفاق من المرجح أن تؤدي إلى زيادة التضخم.
ومن المتوقع صدور التفاصيل الكاملة حول كيفية إنفاق بعض أرباح “أبل” في يناير المقبل، حيث يواجه الوزراء ضغوطاً متزايدة لإنفاق المزيد من الأموال.
ليست السياسة المتعلقة بتقليص العجز بالأمر السهل، ويبدو أيضاً أن السياسة المتعلقة بإدارة فائض ضخم ليست بالأمر الهين.