لم تعد ميكنة (أتمتة) الإجراءات الحكومية رفاهية من حيث الإنجاز والوقت والتكلفة.. فدول العالم تتسارع وتتنافس من أجل بيئة استثمارية وخدمية مستدامة أكثر تنافسية، فعندما أكد تقرير الأونكتاد السنوي حول الاستثمار فى العالم لعام 2024، أن الدول ركزت خلال السنوات الأخيرة على تطوير ميكنة ثلاثة مجالات مهمة؛ وهى الدخول السوق Market Entry، والتراخيص Licensing، ومنظومة التجارة فى المنافذ الجمركية Customs and Trade، وذلك ضمن أول وظيفة استثمارية مهمة لأي دولة تسهيل الإجراءات وتبسيطها وميكنتها Facilitation and Automation فى ظل عالم تتسم فيه التكنولوجيا بتسارع رهيب نحو الذكاء الاصطناعى.
واستكمالاً للمقالة السابقة التى تحدثنا فيها عن ميكنة إجراءات الاستثمار والتنويه عن المقالة اللاحقة فى استكمال الحديث عن ميكنة الموانئ والجمارك والتجارة عبر الحدود والمنافذ الجمركية براً وبحراً وجواً.
وهنا يأتى التساؤل: لماذا ميناء سنغافورة وغيره من الموانئ الآسيوية والأوروبية وموانئ دبي تحتل مراكز متقدمة فى عمليات إنهاء الإجراءات الجمركية فى أسرع وقت ممكن؟
الحل فى تبسيط إجراءات الموانئ وميكنتها على مستوى الميناء ذاته، ومستوى إجراءات الجمارك، ومستوى إجراءات التصدير والاستيراد.. إذن هي منظومة فى مصر تحتوى على ثلاث جهات يجب أن تعمل معاً (وزارة المالية ممثلةً فى مصلحة الجمارك ـ وزارة الاستثمار والتجارة حالياً ممثلةً فى هيئة الرقابة على الصادرات والواردات، وكل الأجهزة المتعلقة بالتجارة الخارجية ـ ووزارة النقل ممثلة فى الموانئ التابعة لها.. وبعض الموانئ الأخرى التابعة للهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس).
الموضوع يحتاج إلى إرادة عليا لفض التشابكات، وعدم البحث عن إنجاز فردى، والبعد عن العمل فى جزر منعزلة.. بل بروح الفريق وتجنيب المجد الشخصى..
خلال الأعوام 2005 ـ 2008 كانت هناك خلية عمل من القطاع الحكومي (من الجهات الثلاث التى تحدثنا عنها وزارة الصناعة والتجارة الخارجية حينها ووزارة النقل ووزارة المالية) وإشراك القطاع الخاص من المصريين والمخلصين الجمركيين للعمل كفريق عمل لتبسيط مؤشر التجارة عبر الحدود ضمن مؤشرات سهولة أداء الأعمال الذي يصدر بتقرير يسمى بيئة ممارسة الأعمال Doing Business Report عن مؤسسة التمويل الدولية IFC التابعة لمجموعة البنك الدولى، وبدراسة منهجية التقرير والمطلوب عمله استطاعت مصر من خلال هذه الوزارات تحت إشراف وزارة وهيئة الاستثمار حينها التى كانت تدير فرق العمل لتحسين ترتيب مصر الوصل الى افضل ترتيب لمصر بالوصول الى الدول العشرين الأولى على مستوى هذا المؤشر.. ثم بدأ التراجع بعد 2011 إلى أن وصل إلى مراتب متأخرة حتى 2020، حيث توقف صدور التقرير فى 2020.. ومازالت الشكوى مستمرة من طول وتكلفة اجراءات الموانئ والإفراجات الجمركية على الشركات.. وثار الحديث عنه مرات عديدة..
تعد سنغافورة ونيوزيلندا الأفضل من حيث بيئة الاستثمار عموماً ثم تتنافس باقي الدول من حيث المؤشرات الفرعية الأخرى، وفى مجال التجارة عبر الحدود كانت سنغافورة وهونج كونج وكوريا الجنوبية الأفضل على مستوى دول شرق آسيا والعالم، وذلك على مستوى الموانئ والإفراجات الجمركية والتجارة عبر الحدود، وفى أوروبا كانت الدنمارك وهولندا وإسبانيا.. وفي الامريكتين كانت كندا ضمن الدول الأفضل. ومنطقة جبل علي الحرة على مستوى الدول العربية من خلال موانئ دبي.
إن سنغفاورة وهونج كونج وكوريا الجنوبية افضل دول العالم من حيث تطبيق النافذة الواحدة المميكنة Electronic Single Window فى مجال تبسيط منظومة التجارة والجمارك عبر الموانئ.
يكفي أنك تشاهد السفن من البرج العالي فى ميناء سنغافورة عندما زرته فى 2008 مع وفد حكومي رفيع المستوى مع مجموعة من رجال الأعمال كرحلة وزارية استهدافية لسنغافورة وماليزيا، والتى خلالها رأينا كيف يراقب السفينة منذ دخولها الميناء والتفريغ حتى خروجها من الميناء بطريقة مميكنة (من غير كلاكيع وتدخل بشري).. وكذلك من خلال التعليم المتميز لديها وتوفير التعامل بلغات متعددة..
انا بقول من 2008 واحنا لسه بنتكلم على ميكنة.. لا تعليق.. دول لديها تجارب على أرض الواقع هي الأفضل على العالم.. فماذا ينقصنا لنكون ضمن الأفضل.. ولاسيما أن لدى مصر مزايا تنافسية واستثمارية عديدة تمكنها لتكون ضمن الدول الافضل..
وهنا أشير إلى تمنياتي أن يخرج الى النور المركز اللوجستي المميكن المزمع تشغيله فى منطقة السخنة الصناعية بدعم كامل من شركة اجيليتي الكويتية من واقع تجربتها فى دولة ماليزيا؛ لنتمكن من تقييم التجربة على منطقة السخنة كميناء ومنطقة صناعية.. هل ستكون فعلاً باكورة للتطوير أم ستكون هناك معوقات ولاسيما أن منظومة بيانات الجمارك وتوحيدها تحمل فى طياتها نزاعاً دفيناً مع شركة MTS إذا ما عرف من هم المساهمون فيها.. الأهم مصلحة الدولة لا مصلحة كيان أو شركة أو مساهميها.. دعونا لا نستبق الأحداث لنرى ماذا سيحدث على أرض الواقع. لكن مازالت سنغافورة باقية فى الأذهان حتى الآن وما حدث عليها من تطورات إيجابية جعلها هي وهونج أهم مراكز حقيقية للخدمات اللوجستية والمالية… Go East.
نتمنى لمصرنا الحبية الأفضل دوما ولاسيما أن لها قيادة سياسية حالياً تسعى لتحقيق الأفضل لمصر رغم كل التحديات..
وتحيا مصر..