الأهمية العسكرية والاستراتيجية لروسيا تفوق بكثير ثقلها الاقتصادي
اتضح أن زعيم بلد يُسجن فيه الصحفيين لكتابة أو بث ما يعتبر “أمراً خاطئاً”، بارع أيضاً في التلاعب بوسائل الإعلام خارج حدوده.
فقد انتشرت صور الرئيس شي جين بينج، خلال قمة “منظمة شنغهاي للتعاون” الأسبوع الماضي، وهو يجمع قادة القوى الكبرى في العالم الناشئ، بما في ذلك، على نحو مهم، رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، حول العالم، ما آثار جولة جديدة من التوقعات بظهور نظام عالمي جديد.
هذه التحليلات ليست بالضرورة خاطئة، على الأقل فيما يتعلق بقضايا الدفاع والأمن، وغضب مودي من فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعريفات جمركية تصل إلى 50% على الصادرات الهندية دفع بلا شك الهند نحو المدار السياسي للصين، لكن في التجارة والاقتصاد، لا تعيد الكتل اصطفافها بهذه السهولة، كما أن الشركات لا تدخل ببساطة في تشكيل جيوسياسي جديد بأمر من الحكومات.
إن وجود خصومة مشتركة ضد عدو استراتيجي لا يعني أن اقتصادات متوسطة الدخل الكبرى ستنضم إلى نظام اقتصادي تقوده الصين، بحسب ما أوضحته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
أولاً، وبصورة عامة، لا تتحرك التجارة بالتوازي مع الاصطفاف الاستراتيجي، فالسوق لايزال مهماً، صحيح أن أبحاث بنك التسويات الدولية أظهرت أن التجارة، وخاصة الاستثمارات، بدأت تشهد بعض التجزئة على أسس جيوسياسية، لكن الدراسة أشارت أيضاً إلى أن هذا التأثير يُقابل بقوة بآلية العرض والطلب. فالدول اليوم تتاجر بشكل أسهل مع الأصدقاء مقارنة بالخصوم، لكنها مازالت تبيع بحماس حيثما يوجد الطلب.
ثانياً، نظام التعريفات الجمركية الذي وضعه ترامب مزعج لكنه ليس بالضرورة مانعاً للتجارة.
ففي مقابل سيل الأخبار عن جدران جمركية، هناك تدفق مستمر من الإعلانات الهادئة والجوهرية حول الاستثناءات التي تُحدث ثقوباً في تلك الجدران.
فقد فاجأ ترامب سويسرا وأصابها بخيبة أمل الشهر الماضي عندما أعلن عن فرض تعريفة ضخمة بنسبة 39% على صادراتها، لكن الاستثناءات اللاحقة للذهب والمنتجات الدوائية تعني أن 10% فقط من الصادرات السويسرية ستتأثر.
إندونيسيا، المنخرطة في محادثات مع الولايات المتحدة، قالت مؤخراً إن ترامب وافق على استثناء زيت النخيل والكاكاو والمطاط من الرسوم الجمركية، أما الهند، فهي غاضبة من التعريفات البالغة 50%، لكن مساعيها للاستحواذ على أعمال تصدير “أيفون” من الصين مازالت قائمة، بفضل الاستثناء الذي منحه ترامب للإلكترونيات.
وقدر في. أنانثا ناجيسواران، كبير المستشارين الاقتصاديين لمودي، مؤخراً أن الرسوم الجمركية المفروضة ستخفض على الأرجح نصف نقطة مئوية من نمو الناتج المحلي الإجمالي للهند هذا العام؛ وهو أمر ليس كارثياً لاقتصاد يتوقع أن ينمو بين 6% و7%.
حتى لو فرض ترامب (وهو أمر غير مرجح) رسوماً جمركية على أجهزة “أيفون”، فماذا ستفعل الهند؟ هل تبيعها للصين، وهي نفسها مُصدر صافٍ ضخم للإلكترونيات؟
إن تنويع السوق بعيداً عن الولايات المتحدة نحو مستوردين آخرين للسلع الاستهلاكية، مثل أوروبا، أمر ممكن، علماً بأن الولايات المتحدة تشتري أقل من 20% من الواردات العالمية حتى على أساس القيمة المضافة، لكن محاولة إعادة التوجه بشكل حازم نحو كتلة يقودها منافس تجاري أمر مختلف تماماً.
عودة الصين في السنوات الأخيرة إلى النمو القائم على التصدير لا تظهر أي علامات على التراجع، مع استمرار ارتفاع مبيعات السيارات بشكل ملحوظ، كما أن الحكومات حريصة على استيراد التكنولوجيا الخضراء من الصين، لكن ذلك يظل عرضاً تجارياً لا يتطلب اصطفافاً جيوسياسياً.
أحد أهم أصدقاء شي في الوقت الحالي هو فلاديمير بوتين، لكن الأهمية العسكرية والاستراتيجية لروسيا تفوق بكثير ثقلها الاقتصادي، فأهمية روسيا الاقتصادية تكمن في كونها مصدر الطاقة وسوق استهلاكي متوسط الحجم يعادل عُشر حجم الاتحاد الأوروبي، كما أن الهند لا تشتري النفط الروسي بدافع التموضع الجيوسياسي، بل لأنها تشتريه بسعر رخيص.
وعلى نطاق أوسع، يحق للدول أن تكون متوجسة من الصين كقوة جيواقتصادية صاعدة، فلدى “شي” ما يكفي من النفوذ على الولايات المتحدة، انطلاقاً من السيطرة الاستراتيجية للصين على المعادن النادرة، بحيث قد يبتز ترامب لرفع الرسوم الجمركية، كما فعل مع اتفاق “المرحلة الأولى” في ولايته الأولى، ويعود إلى التجارة مع الولايات المتحدة.
ومن المرجح أن يلتقي الرئيسان خلال شهر أو شهرين، وشي ليس بأي حال من الأحوال الطرف الأضعف في الحوار، كما هو الحال دائماً، يظل الثقل الاقتصادي العالمي بيد ترامب ليخسره.
فالعمل على أنظمة الدفع الذي تقوم به الصين والأسواق الناشئة الكبرى الأخرى ليس تافهاً، لكنه بالتأكيد لا يشكل تحدياً جدياً للدولار، إلا إذا بدأ ترامب باستخدام نظام المدفوعات بالدولار كسلاح على نطاق واسع.
كما أن محاولة ترامب الفجة لإجبار الاتحاد الأوروبي على فرض رسوم جمركية على الهند والصين تبرز طبيعته غير المتوقعة، لكنها لم تتحقق فعلياً.
إن أكبر تهديد لتفوق الولايات المتحدة العالمي ليس الصين، بل ترامب نفسه، فبالنسبة للمراقب العادي، قد يبدو وكأنه يحاول عمداً إقصاء الولايات المتحدة من النظام التجاري العالمي، بل ومن الاقتصاد العالمي نفسه، لكن لايزال أمامه شوط طويل قبل أن يحقق ذلك.








