قلص المستهلكون البريطانيون من نفقاتهم أكثر من أي بلد آخر في مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، منذ تفشي جائحة كورونا، بسبب ارتفاع معدلات الفائدة الرئيسية ومخاوف حدوث صدمات اقتصادية جعلت الأسر الإنجليزية أكثر ميلا إلى الادخار بدلاً من تبذير الأموال.
وتشير صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية إلى أنه منذ بداية وباء “كوفيد – 19″، ارتفع إنفاق الأسر البريطانية بنسبة 1 في المئة من حيث القيمة الحقيقية، بينما هبط بنسبة 3 في المئة على أساس نصيب الفرد، حتى في ظل ما تسبب فيه التضخم من استثارة ودفع الإنفاق الإسمي.
وعلى النقيض تماما، فإن نصيب الفرد من الإنفاق في الولايات المتحدة قفز بنسبة 12.7 في المئة، و5 في المئة في اليابان، و3.2 في إيطاليا خلال الفترة نفسها، وحتى في ألمانيا، التي يقلص فيها المستهلكون نفقاتهم، فقد ارتفعت بنسبة 0.2 في المائة.
وقالت “فاينانشيال تايمز” إن ذلك الحدث المثير للحذر غريب على شخصية المستهلكين البريطانيين، الذين يشكل إنفاقهم ثلثي الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وقد نما بصورة ثابتة ومتواصلة على مدار ستة أعوام حتى تفشي جائحة كورونا.
وقد حير ذلك الأمر الاقتصاديين، لأن الدخل المتاح للأسر الإنجليزية يتنامى، حتى إذا أخذنا في الاعتبار معدلات التضخم وزيادة العبء الضريبي.
لكن بدلا من إنفاق تلك المكاسب، قامت الأسر البريطانية باكتنازها، وبالنسبة لمعدل الادخار، الذي ارتفع إلى 10.7 في المئة في النصف الثاني، وبقي محتفظا بنموه على خانتين عشريتين خلال العام الماضي – متجاوزا إلى حد بعيد متوسطه الذي سُجل خلال الفترة 2016- 2019 عند 5.6 في المائة.
ويعد حل ذلك اللغز المحير أحد أولويات صناع القرار في “البنك المركزي الإنجليزي” وما لم يشرع المستهلكون البريطانيون في التخلي عن اكتناز المكاسب والبدء في إنفاق الأموال، سيحتاج المركزي البريطاني إلى إعادة التفكير في توقعاته بشأن النمو والتضخم؛ بما ينطوي عليه من تأثيرات على مسار معدلات الفائدة الرئيسية.
وقالت مسؤولة لجنة تحديد الفائدة في “البنك المركزي البريطاني” كاترين مان، الأسبوع الماضي، “لقد توقعنا باستمرار تراجع معدل الادخار، لكن لم نرى ذلك يحدث على نحو مستدام”، وهو ما وصفته بـ”دعوة كبرى للتمحيص” جعلت آفاق الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا تفتقر لليقين على غير العادة.
ويرى اقتصاديون أن ارتفاع مستوى الادخار بعد شروع البنك المركزي البريطاني في إجراء رفع كبير لمعدلات الفائدة في عام 2022، كان متوقعا.
وفي ضوء توافر سيولة لدى الأشخاص يمكن ادخارها، بدأوا في مراكمتها في “حسابات التوفير الشخصية” وغيرها من أوعية الادخار الأخرى التي تقدم عوائد أفضل مما حصلوا عليها في أعوام سابقة.
وفي الوقت نفسه، مال أصحاب العقارات، الذين يواجهون ارتفاعات متتالية في تكلفة رهوناتهم العقارية، إلى خفض نفقاتهم من أجل سداد أكبر قدر ممكن من الديون قبيل إعادة تمويلها.
لكن كبير الاقتصاديين في مؤسسة “كابيتال إيكونوميكس” الاستشارية بول داليس، قال إن ذلك التأثير “قد يتبدد”، مبديا تساؤله حاليا بشأن ما إذا كان هناك تحول هيكلي أكثر في السلوك، إذ أصبح الناس أكثر ميلاً نحو تكوين احتياطيات طارئة لاستخدامها في الأيام القاسية.
تقول نائبة محافظ مدير البنك المركزي البريطاني، كلير لومبارديلي، “إنه أمر يفكر فيه الكثير من الأعضاء في لجنة السياسة النقدية”، مؤكدة “يجب أن نكون يقظين للغاية حيال مخاطر تدهور الطلب، معتقدة أن هناك خطراً معيناً في مزيج الاستهلاك – الادخار.”
وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن استيعاب الدوافع وراء معدلات الادخار من الأمور الصعبة، لأن الرقم مشتق من تقديرات دخل الأسر وإنفاقها الذي خضع لتعديلات واسعة أكثر من المعتاد منذ الجائحة، وأظهرت التقديرات الأخرى أن المستهلكين ينفقون أكثر ويدخرون أقل مما كان معتقدا في 2022، لكن الإنفاق تحول إلى الانخفاض في 2023 و2024.
وتقول مسؤولة تحديد الفائدة في “البنك المركزي البريطاني”، كاترين مان، إن الصدمة التضخمية الكبيرة التي ضربت البلاد، كانت من بين الأسباب التي أدت إلى تجذر هذا السلوك التحوطي داخل المملكة المتحدة مقارنة بدول أخرى.
وتابعت قائلة “لقد عايشت الأسر البريطانية 12 عاما من التضخم خلال أقل من عامين..فالزيادات المتراكمة في مستوى الأسعار لا يمكن لها أن “تختفي” على الفور من نفسية المستهلك بمجرد عودة التضخم إلى المستوى المستهدف”، مبينة أن هناك أدلة على أن المستهلكين أصبحوا أكثر حساسية حيال الأسعار، ولاسيما بالنسبة لمجالات الإنفاق الاختيارية مثل الفنادق والمطاعم.
لكن المستشار في “أوكسفورد إيكونوميكس” الاستشارية، مايكل ساندرز، يرى أن ذلك الأثر “المرعب” للتضخم المرتفع لم يكن على الأرجح سببا رئيسيا لتراجع إنفاق المستهلكين.
وقال “إن انعدام اليقين بشأن التضخم من المحتمل أن يكون سببا جزئيا”، مؤكدا أن “انعدام اليقين الاقتصادي مرتفع.. فالناس منزعجة حيال الوظائف، وتأثير الذكاء الاصطناعي، والضرائب.. فالشيئ الوحيد الذي تعرفه عن ضرائبك هو أنها سترتفع”.
ولفت إلى أن اتجاهات التغيرات السكانية على المدى البعيد قد تسهم أيضا في ذلك.. فالأكبر سناً أكثر ميلاً للادخار، حسب ساندرز، الذي نبه إلى أن الشباب الأصغر الطامحين إلى شراء أول مسكن أصبحوا الآن بحاجة إلى تجنيب المزيد من الأموال لتكوين أول مبلغ يدفعونه لذلك.
من جهته، يقدم رئيس الاقتصاديين في مؤسسة “بيل هانت”، كالوم بيكرينج، سبباَ آخر لتراجع نفقات الأسر وفقدان المستهلكين الإنجليز لحيويتهم في الإنفاق، كونهم يشعرون بأنهم أقل ثراء، بعد فترة ثلاث سنوات أُضيرت خلالها أسعار السندات الخاصة بمحافظ صناديق معاشاتهم، كما أن أسعار المنازل مُنيت بركود من حيث قيمتها الحقيقية.
وقال بيكرينج “لم يعد لدينا أناس يتباهون، بعد مشاركتهم في حفل عشاء في أمسية يوم جمعة، بأن منازلهم ارتفعت قيمتها بـ25 ألف جنيه إسترليني، وأنه قد حان الوقت لإجراء توسيعات في سطح المنزل”.
