تشهد أسواق المال الخاصة في الشرق الأوسط، موجة تحول عميقة تعيد رسم خريطة التمويل والاستثمار في المنطقة، إذ أصبحت أدوات التمويل البديلة – من صناديق الائتمان الخاصة إلى الدين المهيكل وتمويل الشركات غير المدرجة – محورًا رئيسيًا لتوجيه رؤوس الأموال خلال عام 2025، ووفقًا لتقرير صادر عن مكتب المحاماة الدولي” “Allen & Overy .
وترى “ألين آند أوفري” فى تقريرها، أن منطقة الشرق الأوسط تمر بمرحلة “إعادة تموضع استثماري”، تقودها بيئة أسعار الفائدة المرتفعة عالميًا، والتحول في استراتيجيات البنوك والمستثمرين نحو قنوات تمويل أكثر مرونة وأعلى عائدًا، مع صعود واضح لمصر في هذا المشهد كإحدى الوجهات النامية الجاذبة لتدفقات رأس المال الخاص.
أوضح التقرير أن استمرار السياسات النقدية المتشددة عالميًا أسهم في إعادة توزيع مصادر التمويل داخل المنطقة، إذ دفعت تكلفة الاقتراض المرتفعة الشركات الكبرى والمؤسسات الاستثمارية إلى البحث عن بدائل للبنوك التقليدية، وهو ما انعكس في زيادة الاعتماد على أدوات الدين الخاصة وصناديق الائتمان المباشر.
وأشار إلى أن التمويل الخاص أصبح أداة أساسية لتعويض الانكماش في الإقراض المصرفي، خاصة في القطاعات كثيفة رأس المال مثل الطاقة والبنية التحتية والعقارات، وهي قطاعات تشهد فيها مصر ودول الخليج طلبًا متزايدًا على حلول تمويلية مبتكرة، سواء عبر الصناديق الإقليمية أو عبر شراكات مع مؤسسات عالمية لإدارة الأصول.
أفرد التقرير مساحة خاصة لمصر باعتبارها من الأسواق الأكثر جذبًا للتمويل الخاص في شمال أفريقيا، نتيجة استمرار الحكومة في برنامج الإصلاح الاقتصادي، وتوسيع قاعدة المشروعات القابلة للاستثمار في مجالات الطاقة، والنقل، والبنية الأساسية، فضلًا عن نشاط الصناديق السيادية وشركات الاستثمار المباشر في هيكلة أصول الدولة.
وأشار إلى أن القطاع المالي المصري بات أكثر انفتاحًا على أدوات التمويل البديلة، حيث بدأت صناديق الاستثمار الخاصة وشركات إدارة الأصول المحلية في عقد شراكات مع مؤسسات دولية لاستقطاب تمويلات طويلة الأجل بالدولار.
ويرى التقرير أن التجربة المصرية في تفعيل آليات الشراكة بين القطاعين العام والخاص تمثل منصة مثالية لجذب مزيد من الصفقات الممولة عبر أدوات الدين الخاصة، خاصة في ظل توجه الحكومة لطرح مشروعات البنية الأساسية عبر نماذج تمويل مرنة.
توسع في أدوات الدين وتمويل الشركات غير المدرجة
لفت تقرير “Allen & Overy” إلى أن المنطقة، وعلى رأسها مصر، تشهد تنوعًا متسارعًا في أدوات الائتمان الخاصة، سواء عبر القروض المهيكلة أو السندات الخاصة أو أدوات الدين القابلة للتحويل.
وأشار إلى أن عدداً متزايداً من الشركات المصرية المتوسطة والكبيرة بات يتجه إلى السوق الخاصة لتأمين التمويل، بعيدًا عن قيود السوق المصرفية أو متطلبات الإدراج في البورصة.
كما أشار التقرير إلى أن مؤسسات التمويل الدولية وصناديق الائتمان الأوروبية والخليجية أصبحت تنظر إلى مصر باعتبارها سوقًا «قابلة للترقية» على صعيد إدارة المخاطر والعوائد، لا سيما بعد التطورات الأخيرة في بيئة الاستثمار والتشريعات المالية.
تغير هيكل المستثمرين واتساع قاعدة المشاركين
ورصد التقرير تغير هوية المستثمرين في أدوات رأس المال الخاص، إذ لم تعد مقتصرة على الصناديق الكبرى أو مؤسسات الثروة السيادية، بل توسعت لتشمل بنوك الاستثمار المحلية، وشركات التأمين، وبعض الكيانات الحكومية الباحثة عن عوائد طويلة الأجل.
وفي مصر تحديدًا، أشار التقرير إلى تنامي اهتمام الصناديق الخليجية والمستثمرين الأجانب بالمشاركة في تمويل مشروعات خاصة أو شراء حصص في شركات غير مدرجة، وهو ما يعزز السيولة في السوق المحلية ويتيح فرص خروج أكثر تنوعًا للمستثمرين الأوائل.
كما لفت إلى أن النمو في محافظ التمويل الخاصة يعكس أيضًا رغبة المستثمرين في تقليل التقلبات المرتبطة بالأسواق العامة، وتفضيلهم للعوائد المستقرة نسبيًا التي توفرها القروض الخاصة وصفقات الملكية المباشرة.
تمويل البنية التحتية والطاقة يتصدر المشهد
أكد التقرير أن قطاعي الطاقة والبنية التحتية يستحوذان على النسبة الأكبر من تدفقات رأس المال الخاص في الشرق الأوسط ومصر، مدعومين ببرامج التحول الطاقي والاستدامة، والتوسع في مشروعات النقل والموانئ والطاقة المتجددة.
وأشار إلى أن القاهرة باتت محورًا إقليميًا رئيسيًا لتمويل هذه المشروعات، خاصة في ظل توسع الصندوق السيادي المصري في عقد شراكات مع مستثمرين خليجيين وأوروبيين لتمويل مشروعات في قطاعات الكهرباء والهيدروجين الأخضر وتحلية المياه.
وأوضح أن الشركات العالمية المتخصصة في إدارة الأصول باتت تدرس الدخول إلى السوق المصرية عبر صناديق ائتمان موجهة لتمويل مشروعات البنية التحتية، مستفيدة من استقرار الإطار التشريعي وتحسن تصنيف المخاطر السيادية، وتزايد الطلب المحلي على الخدمات الأساسية.
الشفافية والإفصاح.. عوامل حاسمة لجذب التمويل
رغم النظرة الإيجابية التي يرصدها التقرير تجاه السوق المصرية، إلا أنه يشير إلى أن تحسين معايير الشفافية والإفصاح يظل عنصرًا حاسمًا في تعزيز ثقة المستثمرين الدوليين.
ويرى أن نجاح مصر في ترسيخ قواعد الإفصاح المالي وتطبيق الحوكمة الحديثة على الشركات الخاصة سيكون مفتاحًا لزيادة التدفقات إلى أدوات التمويل غير التقليدية.
كما أكد التقرير أن التحول نحو الاقتصاد الأخضر والتمويل المستدام أصبح أولوية لدى مستثمري القطاع الخاص، ما يستلزم من الحكومات في المنطقة – ومن بينها مصر – دمج المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمية في السياسات التمويلية ومشروعات البنية الأساسية لجذب الاستثمارات طويلة الأجل.
التحديات: سيولة السوق وتكلفة التمويل
رغم الزخم المتزايد في نشاط رأس المال الخاص، يشير التقرير إلى مجموعة من التحديات التي تواجه السوق المصرية، أبرزها ارتفاع تكلفة التمويل الخارجي وتذبذب سعر الصرف، ما يفرض على الشركات البحث عن حلول تمويل محلية أو مختلطة بالعملة المحلية.
ولفت التقرير إلى أن نقص البيانات الموثوقة حول السوق الخاصة يجعل بعض المستثمرين الدوليين أكثر تحفظًا، داعيًا إلى تطوير قواعد بيانات وطنية ترصد صفقات التمويل الخاصة وتتيح مقاييس واضحة للأداء والعائد.
وتعتقد ألين آند أوفري أن السنوات المقبلة ستشهد تحول مصر إلى مركز رئيسي للصفقات الخاصة في شمال أفريقيا، بفضل موقعها الجغرافي وتنوع قاعدتها الصناعية والمالية، إلى جانب قدرتها على الربط بين رأس المال الخليجي والفرص الاستثمارية الأفريقية.
كما يتوقع التقرير أن تنشط حركة الاندماجات والاستحواذات الممولة عبر أدوات الائتمان الخاصة، مع بروز دور أكبر للصناديق السيادية والمكاتب العائلية الإقليمية في تمويل توسعات الشركات المصرية أو الاستحواذ على حصص استراتيجية بها.
خلص التقرير إلى أن صعود رأس المال الخاص في الشرق الأوسط يمثل تحولًا هيكليًا طويل الأمد في مشهد التمويل الإقليمي، وأن مصر تمتلك المقومات اللازمة لتكون لاعبًا محوريًا في هذه الموجة، شرط استمرار الإصلاحات المالية، وتعزيز كفاءة الأسواق، وتوسيع قاعدة المستثمرين المحليين.








