أعادت أزمة شركة “ديلويت” للمحاسبة والاستشارات مع الحكومة الأسترالية، الجدل حول مدى موثوقية البيانات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي في مجال الخدمات المالية والاستشارية، بعدما تبيّن أن الشركة استعانت بأداة ذكاء اصطناعي لإعداد تقرير رسمي تضمن معلومات غير دقيقة واستشهادات وهمية.
القصة التي هزّت أوساط الأعمال في أستراليا بدأت حين كلفت وزارة التوظيف والعلاقات العمالية شركة ديلويت بإجراء مراجعة ضمان مستقلة بقيمة 290 ألف دولار أمريكي لتقييم المشكلات المرتبطة بنظام الرعاية الاجتماعية الذي يفرض عقوبات تلقائية على الباحثين عن عمل.
لكن صحيفة “الأستراليان فاينانشيال ريفيو” كشفت لاحقاً أن التقرير الذي أعدته الشركة تضمّن بيانات خاطئة ومراجع وهمية منسوبة إلى جامعات مثل سيدني ولوند السويدية، ما أثار تساؤلات حادة حول اعتمادية المخرجات التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، وحدود استخدامه في القطاعات الحساسة مثل الاستشارات المالية والتدقيق المحاسبي.
تلك الواقعة سلطت الضوء على التحدي الأكبر أمام انتشار الذكاء الاصطناعي في الخدمات المالية، وهو ضمان دقة المعلومات وصحتها. وبينما يعزز الذكاء الاصطناعى من سرعة جمع البيانات وتحليلها، يظل الخطر الأكبر متمثلاً في تحيز أو عدم دقة المخرجات، وهو ما قد يكلف الشركات سمعتها وثقة عملائها.
عوني: 90% من البيانات منحازة وغير اعتمادية
ويرى سيف عوني، العضو المنتدب لشركة إيليت للاستشارات المالية، أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعى في إعداد التقارير المالية أو تقييم الاستثمارات مازال محدوداً للغاية بسبب غياب الضمانات الكافية لصحة البيانات التي يقدمها.
وأضاف أن استخدامه يقتصر في الوقت الراهن على عمليات البحث وتوثيق المصادر وتحليل الاتجاهات العامة، دون أن يصل إلى مرحلة الاعتماد الكامل عليه في اتخاذ قرارات مالية أو استثمارية حاسمة.
وأشار عوني إلى أن المؤسسات المالية تحتاج إلى كسر الحاجز النفسي والمعنوي تجاه الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، لكن بشرط أن يكون مصحوباً بـ”تدقيق بشري صارم” قبل تبني أي مخرجات.
وأكد أن نحو 90% من البيانات التي ينتجها الذكاء الاصطناعي تكون غير مكتملة أو منحازة نتيجة لطبيعة النماذج التي تعتمد على كمٍّ هائل من المعلومات من مصادر غير موثقة بالكامل.
وحذر من أن هذا الخلل قد يؤدي إلى نتائج مضللة أو قرارات خاطئة، خاصة في القطاعات المالية التي تعتمد على أدق التفاصيل في التقييم.
ولفت عوني، إلى أن المخاطر لا تتوقف عند دقة المعلومات فقط، بل تمتد إلى احتمالات اختراق أو تسريب بيانات العملاء في حال الاعتماد المكثف على النظم الذكية. ويرى أن الإفراط في استخدام الذكاء الاصطناعى دون ضوابط سيؤدي إلى تراجع كفاءة العاملين البشريين بمرور الوقت، وهو ما ينعكس سلباً على أداء الشركات وحصتها السوقية.
وشدد عوني على أهمية أن تتضمن عقود الاستشارات المالية بنود إفصاح واضحة حول ما إذا كانت الشركة قد استعانت بنماذج ذكاء اصطناعي في إعداد التقارير المقدمة للعميل، موضحاً أن الشفافية والإفصاح المسبق باتا عنصرين أساسيين في حماية سمعة المؤسسات.
فرغم الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي في تقليص الوقت وتوفير التكاليف، يبقى العامل البشري هو صمام الأمان في صناعة الاستشارات المالية، خاصة في ظل ما تحمله القرارات المالية من حساسية وتأثيرات واسعة.
وفي الوقت الذي تتسابق فيه الأسواق المتقدمة لتبني الذكاء الاصطناعي في تقييم الاستثمارات، يبدو أن السوق المصري سيتبنى نموذجاً أكثر حذراً وتوازناً، يقوم على الاستفادة من الذكاء الاصطناعى كأداة تحليل، لا كبديل للمقيم المالي المعتمد.
ومع تزايد الضغوط على المؤسسات لرفع الكفاءة وخفض التكاليف، سيظل التحدي الحقيقي هو تحقيق المعادلة الصعبة بين سرعة الإنجاز واعتمادية المعلومة — وهي المعادلة التي ستحدد مستقبل الاستشارات المالية في عصر الذكاء الاصطناعي.
قباني: السوق المصري لا يزال في مرحلة الاستخدام المساند وليس البديل عن المقيم المالي البشري
من زاوية أخرى، يرى هيثم قباني، العضو المنتدب لشركة بيتا كابيتال للاستشارات المالية، أن الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة كبيرة لتحسين جودة التقييمات والاستشارات المالية، إذ يمكنه معالجة كميات ضخمة من البيانات وتحليلها بسرعة تفوق القدرات البشرية.
وأضاف قباني إن الاعتماد على هذه النماذج سيسهم في تحديد القيمة العادلة للشركات بدقة أعلى وتقليل الفجوة بين القيمة السوقية والقيمة العادلة، وهو ما يعزز كفاءة السوق ويرفع من مستوى الشفافية في عمليات التقييم.
وأشار إلى أن نحو 94% من العاملين في الشركات المالية الكبرى حول العالم بدأوا بالفعل في التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي في أعمالهم اليومية، سواء في التحليل المالي، أو دراسات الجدوى، أو إعداد العروض الاستثمارية.
ويعتقد أن حجم التأثير يختلف من سوق إلى آخر، موضحاً أن الأسواق الخليجية مثل السعودية والإمارات هي الأقرب لتطبيق الذكاء الاصطناعي بشكل فعّال وموسع خلال الفترة المقبلة، في حين أن السوق المصري لا يزال في مرحلة الاستخدام المساند وليس البديل عن المقيم المالي البشري.
ويرى قباني ، أن التحول نحو الذكاء الاصطناعي في المنطقة العربية سيبدأ فعلياً من الأسواق الخليجية التي تمتلك بنية تحتية رقمية قوية ودعماً حكومياً كبيراً لتقنيات التحول الرقمي، مشيراً إلى أن السوق السعودي والإماراتي بدآ بالفعل في دمج أدوات تحليل ذكية في عمليات التقييم والاستثمار داخل الشركات الكبرى وصناديق الثروة السيادية.
وأضاف أن المستثمرين المحترفين سيعتمدون خلال عامين على الأقل على الذكاء الاصطناعي بشكل شبه كامل في تقييم الشركات وجدوى الاستثمار فيها، معتبراً أنه سيكون أداة أساسية لإدارة المحافظ الاستثمارية وصناديق الأسهم الخاصة.
أما في مصر، فيرى قباني أن الذكاء الاصطناعي سيظل أداة مساعدة فحسب، نظراً لخصوصية السوق بوصفه سوقاً ناشئاً يخضع لرقابة صارمة من الهيئة العامة للرقابة المالية، التي تشترط وجود مقيم مالي معتمد لأي عملية تقييم أو استشارة مالية.
ويدخل قطاع الاستشارات المالية ، مرحلة إعادة تعريف للدور البشري أمام الذكاء الاصطناعي، إذ لم يعد الخطر في فقدان الوظائف فقط، بل في تراجع عنصر الخبرة البشرية الذي يضيف “الحس المهني” إلى التقييمات، وهو ما لا يمكن للنماذج الذكية محاكاته بالكامل، والتطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي سيدفع الشركات إلى إعادة صياغة معايير الجودة والمسؤولية، بحيث تجمع بين السرعة الرقمية والدقة البشرية، لتجنب الوقوع في أخطاء مشابهة لما حدث في قضية “ديلويت”.
وتعكس واقعة ديلويت ـ بحسب مراقبين ـ أن الاعتماد غير المنضبط على الذكاء الاصطناعي قد يتحول من أداة مساعدة إلى مصدر تهديد إذا لم يصاحبه تحقق وتدقيق بشري صارم. فالذكاء الاصطناعي قادر على توليد نصوص دقيقة المظهر لكنها قد تخلو من المحتوى العلمي الصحيح أو المراجع الحقيقية، وهو ما يضع المؤسسات أمام تحدي تحقيق التوازن بين الكفاءة والموثوقية.
ورداً على الانتقادات الموجهة إلى الذكاء الاصطناعي بشأن دقة المعلومات، يقول قباني إن المشكلة لا تكمن في النموذج نفسه، بل في جودة المعطيات التي يتم إدخالها إليه، موضحاً أن أي نموذج، مهما بلغت دقته، سيُنتج مخرجات مغلوطة إذا كانت البيانات الأصلية غير دقيقة أو ناقصة.
أضاف أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أكثر دقة من الإنسان إذا توفرت له قواعد بيانات موثوقة ومنظمة، مشيراً إلى أن هذا الشرط غير متحقق بالكامل في الأسواق الناشئة مثل مصر، حيث تفتقر الشركات في كثير من الأحيان إلى الإفصاح المالي الكامل والبيانات التاريخية المتاحة رقمياً.
