57% من استثمارات الاتحاد الأوروبي بالصين مصدرها الشركات الألمانية
بالنسبة لماتياس روث، ليس هناك مجال لنقل أعماله بعيداً عن الصين، رغم التحذيرات الحكومية المتزايدة بشأن مخاطر الإفراط في الاستثمار داخل البلاد.
وبصفته المدير العام لشركة “تراديوم” المتخصصة في تجارة العناصر النادرة والسلع الأساسية ومقرها فرانكفورت، تبقى الصين عنصراً أساسياً في أعمال الشركة، بالنظر إلى هيمنتها شبه الكاملة على قطاع العناصر الأرضية النادرة، الذي يزداد أهمية يوماً بعد يوم.
وقال روث لشبكة “دويتشه فيله” الألمانية: “في ظل تغطية الصين، على سبيل المثال، لأكثر من 95% من سوق العناصر الأرضية النادرة، لا يمكنك استبدال ذلك في وقت قصير. هذه علاقات تجارية طويلة الأمد وموثوقة، كما أن المواد والعمليات مثبتة وفعالة”.
وبالنسبة لروث والعديد من الشركات الأخرى في ألمانيا، تبقى الصين مكاناً بديهياً لممارسة الأعمال.
ولوقت طويل، تبنت الحكومة الألمانية هذا التوجه بالكامل وشجعته.
لكن تحول السلطة في البلاد تحت قيادة الرئيس شي جين بينج، والذي شهد اصطفاف الصين إلى جانب روسيا بعد حرب أوكرانيا، غير طبيعة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين.
لقد تغير الوضع الجيوسياسي، وعلى مدار السنوات القليلة الماضية بدأت الحكومة الألمانية تتحدث عن “تقليل المخاطر” من الصين (الحد من الاعتماد على دولة واحدة للحصول على مكونات أو سلع أو مواد خام)، خصوصاً بسبب مخاطر تعرض الشركات الأجنبية لإجراءات صارمة من السلطات الصينية.
215 مليار دولار حجم التجارة البينية خلال 9 أشهر
وفي الآونة الأخيرة، قال المستشار الألماني فريدريش ميرتس عن الشركات الألمانية العاملة في الصين: “أقول لهم دائماً عندما أقابلهم: هذه مخاطرتكم، وإذا ساءت الأمور، من فضلكم لا تأتوا إلينا”.
زار وزير المالية الألماني لارس كلينجبايل، مؤخراً، الصين لمناقشة تطور العلاقة الاقتصادية بين البلدين.
وقال خلال حديثه في بكين إن ألمانيا ترى “المنافسة العادلة في خطر، وترى أيضاً الوظائف الصناعية مهددة”. لكنه شدد على ضرورة الحوار، قائلاً: “علينا أن نتحدث مع الصين بدلاً من التحدث عنها”.
قصة حب في عالم السيارات
تبدو الصين علاقة يصعب على الصناعة الألمانية التخلي عنها، ولأسباب وجيهة.
فقد تجاوزت الصين الولايات المتحدة مؤخراً لتصبح مجدداً الشريك التجاري الأول لألمانيا، وبلغ حجم التجارة بين البلدين 185.9 مليار يورو (أي ما يعادل 215 مليار دولار) بين يناير وسبتمبر من هذا العام.
وعلى مدى عقود، أعطى كبار الصناعيين الألمان الأولوية للسوق الصينية الضخمة، ولا تزال مستويات الاستثمار مرتفعة.
ووفقاً لدراسة حديثة صادرة عن “معهد مركاتور للدراسات الصينية” في برلين، شكلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة الألمانية 57% من إجمالي استثمارات الاتحاد الأوروبي في الصين خلال النصف الأول من عام 2024، أي نحو 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي الألماني.
وتشير الدراسة إلى أن حجم الاستثمارات ما زال ينمو، إذ ارتفعت استثمارات الشركات بمقدار 1.3 مليار يورو بين عامي 2023 و2024.
ويعد قطاع السيارات من القطاعات الأكثر ترابطاً بين ألمانيا والصين، فقد استثمرت شركات ألمانية كبرى مثل “فولكس واجن” و”بي إم دبليو” مليارات الدولارات في الصين على مدى السنوات، ورغم التحديات الكبيرة في الفترة الأخيرة، لا تزال هذه الشركات تأمل في نجاح طويل الأمد داخل السوق الصيني.
استثمرت “بي إم دبليو” مؤخراً 3.8 مليار يورو في مشروع بطاريات بمدينة شنيانج، وأكدت الشركة أنه لا توجد خطط كبيرة للابتعاد عن البلاد.
وقالت بريتا أولريش، المتحدثة باسم “بي إم دبليو”، إن “السوق الصيني يمثل أكبر سوق منفرد بالنسبة لشركة (بي إم دبليو) عالمياً، وندير فيها عدة مصانع من خلال مشروعين مشتركين. نعتمد استراتيجية سوق طويلة الأمد نقوم بمراجعتها وتعديلها عند الحاجة. ولا توجد أي تغييرات جوهرية على أنشطتنا في المنطقة”.
“فولكس واجن” و”مرسيدس” و”بي إم دبليو” تتراجع مع ارتفاع إنتاج بكين من السيارات الكهربائية
لكن رغم استمرار أهمية الصين بالنسبة لصناع السيارات الألمان، تمر العلاقة بتحول جذري، ليس بسبب الجغرافيا السياسية فقط.
فالمنافسة الشديدة التي يواجهها صُناع السيارات الألمان من الشركات الصينية، والتصور بأن بعض هذه المنافسة ناتج عن ممارسات صناعية صينية تقوض قواعد التجارة العالمية، أعاد رسم مشهد السوق.
وقال متحدث باسم اتحاد صناعة السيارات الألماني لشبكة “دويتشه فيله”: “من الضروري أن تكون هناك شروط منافسة متساوية ومستوى لعب عادل على الجانبين. وفي هذا السياق، يتعين على الصين تقديم مقترحات بناءة لأوروبا، ومنع الممارسات المناهضة للمنافسة باستمرار وبسرعة، وضمان حرية التجارة في الوضع الحالي”.
رغم استمرار أهمية الصين للأعمال الألمانية، تتزايد الضغوط المالية من كل الجهات.
فالصادرات الألمانية إلى الصين تراجعت بنسبة %25 منذ عام 2019، بينما شهد كبار مصنعي السيارات الألمان “فولكس واجن” و”مرسيدس” و”بي إم دبليو” انخفاضاً حاداً في حصصهم السوقية خلال السنوات الأخيرة، مع تسارع الإنتاج الصيني من السيارات الكهربائية.
وأضاف المتحدث باسم اتحاد صناعة السيارات الألماني أن “تقليل المخاطر أمر ضروري ويتم تنفيذه بقوة من قبل الشركات في قطاع السيارات”، لكنه شدّد على ضرورة “أن يكون ذلك ممكناً سياسياً، وليس مجرد مطلب”.
كما أكد أن تقليل المخاطر لا يجب أن يعني “إغلاق الأسواق”.
وقال إن “أفضل سياسة هي فعل كل ما هو ممكن لتعزيز تنافسية موقع الأعمال والنمو. هذا لا يخلق فقط موقفاً تفاوضياً أقوى، بل يعزز أيضاً الاستثمار والابتكار محلياً”.
كذلك، يقول تاجر العناصر النادرة ماتياس روث إن من المهم تذكر أن شركاءه الصينيين يتأثرون أيضاً بالتوترات الجيوسياسية.
وأضاف أن “الصعوبات الحالية تنبع أساساً من القرارات السياسية، وليس من الموردين أنفسهم”.
تأثرت أعماله بشكل أساسي بتقييد الصين لصادرات العناصر النادرة بشكل شديد، الأمر الذي أثار إحباط مورديه أيضاً.
وقال: “هم أيضاً يواجهون تحديات وخسائر بسبب قيود التصدير الحالية”.
وأوضح أن شركته لم تتعرض لضغط سياسي لـ”تقليل المخاطر” من الصين، بل تواجه ببساطة “الواقع البارد لضغوط السوق” التي تفاقمت بسبب الرسوم العالمية وقيود التصدير الصينية.
وأضاف أنه “بالنسبة لمورد مثلنا، هذا يعني أن إجراءات التوريد الراسخة منذ سنوات لم تعد تعمل بنفس الموثوقية. ما زلنا نعتمد على شركائنا الصينيين التقليديين، لأنه بالنسبة للعديد من المواد، لا يوجد فعلياً أي بديل للصين”.
مع ذلك، أشار إلى أن شركته تستثمر مزيداً من الوقت والجهد لتأسيس خيارات توريد خارج الصين.
وقال إن “الأمر ليس أن السياسة تخبرنا بما يجب القيام به، بل السوق نفسه يفرض على كل تاجر وشركة معالجة مواد خام جادة إعادة التفكير في استراتيجية التوريد الخاصة بها، وسيزداد هذا الضغط بلا شك. هذه هي الحقيقة اليومية”.








