يشهد السوق العقاري المصري تحولًا كبيرًا نحو إنشاء مدن ذكية ومستدامة، مدفوعًا باستراتيجية الدولة التي تضع ملف التطوير العمراني في مقدمة أولوياتها.
وقد أحدثت هذه الرؤية طفرة عمرانية واسعة النطاق، فتحت الباب أمام نماذج جديدة من المدن المخططة بعناية، والمبنية وفق أحدث المعايير البيئية والتكنولوجية العالمية، وعلى رأسها العاصمة الإدارية الجديدة التي أصبحت أيقونة هذا المسار التنموي.
ورغم هذه الطفرة، لاتزال هناك تحديات تواجه المطورين العقاريين، أبرزها ارتفاع التكلفة واعتماد أغلب المواد الأساسية على الاستيراد، إضافة إلى صعوبة تطبيق مفاهيم الاستدامة على المدن القديمة ذات البنية التقليدية.
قال المهندس هاني العسال، مؤسس مجموعة مصر إيطاليا ووكيل غرفة التطوير العقاري باتحاد الصناعات، إن مصر نجحت خلال السنوات القليلة الماضية في تحقيق نقلة عمرانية غير مسبوقة، سواء على مستوى حجم المشروعات أو مستوى دمج مفاهيم الاستدامة في عملية التطوير.
وأشار لـ”البورصة”، إلى أن الدولة تبنت واحدة من أكبر خطط التنمية العمرانية، تعتمد على إنشاء مدن جديدة تستند إلى التصميم الأخضر، والبنية التحتية الذكية، والممارسات البيئية المستدامة، وهي عناصر كانت غائبة طويلًا عن المشهد العمراني المصري، الذي عانى لسنوات من انتشار المناطق غير المخططة التي شكّلت نحو 85% من الكتل العمرانية.
ويعد مشروع العاصمة الإدارية الجديدة أبرز تجليات هذا التحول؛ إذ تقام المدينة على مساحة 350 ألف فدان، وهي مساحة تماثل حجم بعض الدول الصغيرة، وتم تصميمها اعتمادًا على نموذج المدينة الخضراء التي لا تتجاوز فيها نسبة البناء 25% مقابل 75% مساحات خضراء ومحاور مرورية وبنية تحتية تكنولوجية.
ويلفت العسال إلى أن تطوير البنية التحتية وحده كلف الدولة أكثر من 500 مليون دولار، لكنه شكل الأساس الصلب الذي مكن مصر من الدخول في سباق المدن الذكية عالميًا، ورفع قدرتها على جذب الاستثمارات الخليجية والأوروبية وتعزيز ثقة المستثمر الأجنبي في السوق المصري.
أضاف أن القطاع العقاري الآن يمثل نحو 21% من الناتج القومي، ما يؤكد دوره المركزي في الاقتصاد الوطني.
ويشير العسال إلى أن جميع مشروعات شركته “مصر إيطاليا” تعتمد على معايير الاستدامة والذكاء في التصميم والتنفيذ، وتخضع لاختبارات صارمة من بيوت الخبرة العالمية، مؤكدًا أن تكلفة المشروع لا تحددها المساحة فقط، بل مستوى الخدمات المباشرة وغير المباشرة وجودة الحلول الذكية المدمجة فيه.
ويضيف أن وعي المجتمع المصري تجاه المدن الذكية تطور بشكل ملحوظ، خاصة بين الأجيال الشابة، التي تبحث باستمرار عن بيئة معيشية أكثر كفاءة واستدامة، وتتجه لاختيار المشروعات التي توفر عناصر الحفاظ على البيئة، وترشيد استهلاك الطاقة، وتقديم جودة حياة أعلى.
كما يؤكد أن الدولة استطاعت خلال فترة وجيزة سد فجوة طويلة في التخطيط العمراني، عبر تبني نظام جديد يقوم على تطوير البنية التحتية من الجذور واستخدام أحدث الوسائل التكنولوجية.
وقد أدى ذلك إلى دفع القطاع العقاري نحو مستويات جديدة من التنافسية، وإطلاق حركة توسع غير مسبوقة نحو إنشاء مدن جديدة مثل العلمين الجديدة، والمنصورة الجديدة ، والسويس الجديدة، والإسماعيلية الجديدة، بالإضافة إلى التوسع المخطط ليصل عدد المدن الذكية والمستدامة في مصر إلى 62 مدينة.
80 % من المواد المستخدمة في البناء الذكي لاتزال مستوردة
ويرى العسال أن هذا التنوع الجغرافي والتخطيطي يخلق فرصًا كبيرة للمطورين، لكنه في الوقت نفسه يتطلب جاهزية عالية لمجاراة سرعة التطوير وارتفاع التكاليف المتعلقة بتقنيات الاستدامة.
ويلفت إلى أن نحو 80% من المواد المستخدمة في بناء المدن الذكية لاتزال مستوردة، ما يجعل تكلفة التنفيذ مرتبطة بشكل مباشر بالتقلبات الاقتصادية العالمية.
والدولة بدأت بالفعل في توفير بيئة داعمة لتوطين الصناعات المرتبطة بقطاع العقارات، وطرحت عددًا من الحوافز أبرزها “الرخصة الذكية” التي تستهدف تسهيل عمليات التصنيع المحلي وخفض الاعتماد على الخارج.
وفي المقابل، قامت غرفة التطوير العقاري بإطلاق تصنيف جديد للمطورين، يقسمهم إلى فئات مختلفة تبدأ من “المطور العام” وحتى “المطور الصغير”، بهدف تنظيم القطاع، وتوجيه المطورين نحو تحسين معايير الإدارة والتنفيذ ومواكبة التحول الرقمي السريع داخل القطاع العقاري.
أهاب: مشروع “مدار” في السخنة يضم محطات تحلية ومعالجة وإنارة شمسية
ومن زاوية أخرى، يقدم أحمد أهاب، الرئيس التنفيذي لشركة مدار للتطوير العقاري، رؤية أكثر تفصيلًا حول تطبيق تقنيات الاستدامة على أرض الواقع، موضحًا أن جميع مشروعات الشركة تعتمد كليًا على مفهوم الاستدامة منذ التصميم وحتى التنفيذ والتشغيل.
ويشير لـ”البورصة”، إلى أن مشروع الشركة في العين السخنة يمثل نموذجًا عمليًا لهذا النهج، حيث تم إنشاء آبار مياه ومحطات للتحلية والمعالجة، إضافة إلى اعتماد إنارة الشوارع على الطاقة الشمسية، كما يعتمد المشروع على بحيرات صناعية تصل سعتها إلى أكثر من 120 ألف متر مكعب تعمل بتقنيات توفر استهلاك الكهرباء وتحقق أقصى درجات الكفاءة.
ويضيف أهاب، أن شبكات الري الحديثة المستخدمة تسهم في تقليل استهلاك المياه بشكل كبير، بينما تستخدم مياه المعالجة في ري المساحات الخضراء، مما يقلل الاعتماد على مصادر المياه التقليدية.
ويوضح أهاب أن المشروع يعتمد على شبكة كهرباء ذكية مزودة بحساسات تقوم باكتشاف الأعطال قبل حدوثها، مما يعزز كفاءة التشغيل ويرفع القيمة المضافة للمشروع على المدى الطويل.
تطبيق التقنيات الحديثة يرفع التكلفة المبدئية بين 15% و20%
ويشير إلى أن تطبيق تقنيات المدن الذكية يرفع التكلفة المبدئية بنسبة تتراوح بين 15 و20%، لكنه في المقابل يقلل مصروفات التشغيل والصيانة بنحو 30%، وهو ما يجعل هذا النموذج أكثر جدوى اقتصاديًا على المدى الطويل، خاصة في ظل ارتفاع تكلفة التشغيل في المشروعات التقليدية.
ويؤكد أهاب أن السوق العقاري المصري يسير بالفعل نحو هذا الاتجاه، مدفوعًا بزيادة وعي العملاء بالفوائد الاقتصادية والبيئية لمفاهيم الاستدامة، كما تعمل وزارة الإسكان حاليًا على إعداد مجموعة من التيسيرات لدعم المشروعات المستدامة، تشمل تعديلات في النسب البنائية، وتسهيلات في إجراءات التمويل، وتخفيضات محتملة في فائدة الأقساط، وهي خطوات من شأنها تشجيع المطورين على التوسع في تطبيق المعايير الذكية داخل مشروعاتهم.
وفي المقابل، يرى أهاب أن أحد أكبر التحديات يتمثل في أن نسبة كبيرة من المواد المستخدمة في بناء المدن الذكية لاتزال مستوردة، ما يضع المطورين أمام تكلفة مرتفعة وتقلبات في الأسعار، إضافة إلى الإجراءات المتعلقة بالاستيراد.
كما يشير إلى أن تحويل المدن القديمة إلى مدن ذكية ومستدامة بشكل كامل يعد أمرًا بالغ الصعوبة، نظرًا للتكلفة الضخمة والموروثات التخطيطية التي يصعب تغييرها، لكنه يؤكد في الوقت نفسه إمكانية تنفيذ عمليات تطوير جزئية مثل تركيب أنظمة الطاقة الشمسية أو رقمنة العدادات أو تحسين إدارة النفايات.
عبدالمنعم: السوق يواجه تحديات تتعلق بتأخر بعض الشركات في تسليم الوحدات
ويؤكد إبراهيم عبد المنعم، رئيس شركة “كونسالتنج” للتسويق العقاري، أن المدن الذكية والمستدامة أصبحت تنتشر بشكل متسارع في مصر خلال السنوات الأخيرة، مشيرًا إلى أن منطقة سفينكس الجديدة تمثل أحد الأمثلة الواضحة، حيث تعتمد بشكل كبير على الطاقة المتجددة وتضم مساحات خضراء واسعة، ما يعكس توجهًا واضحًا نحو تطوير مجتمعات عمرانية أكثر كفاءة واستدامة.
أضاف لـ”البورصة”، أن ثقافة الاستدامة لم تكن منتشرة في المجتمع المصري سابقًا، لكنها بدأت تكتسب حضورًا أكبر مع ظهور مشروعات تعتمد على حلول ذكية وبيئية.
ومع ذلك، يرى أن السوق يواجه تحديات تتعلق بتأخر بعض الشركات في تسليم الوحدات، ما يدفع بعض العملاء إلى التردد في اقتناء المشروعات الذكية رغم اهتمامهم المتزايد بهذا النوع من التطوير.
وأوضح رئيس شركة “كونسالتنج”، أن ارتفاع تكلفة تنفيذ تقنيات الاستدامة مايزال أحد أبرز الصعوبات التي تواجه المطورين، إذ ينعكس على أسعار الوحدات ويجعل إقناع العملاء بفوائدها الحقيقية تحديًا إضافيًا، رغم أن هذه الفوائد تظهر بوضوح خلال مرحلة التشغيل وليس فقط أثناء التأسيس.
ويشدد على أهمية الدور الذي يجب أن تلعبه البنوك في دعم الشركات التي تطور مشروعات ذكية، مؤكدًا أن هذه المشروعات لا تخدم المطورين فحسب، بل تعود بفوائد اجتماعية واقتصادية واسعة على المجتمع ككل، وتساهم في خلق بيئة حضرية أكثر كفاءة واستدامة.








