الإنترنت يبدد أحلام الثراء ويمنح الشركات غرب الأطلسي النصيب الأكبر من ثروة الاقتصاد الرقمي
قبل قرنين ونصف القرن من الزمان، أطلقت المستعمرات الأمريكية احتجاجاً عنيفاً ضد الحكم البريطاني، بعدما فرض البرلمان احتكاراً لبيع الشاي، مدفوعاً بتصرفات ملك متغطرس.
اليوم انعكست الصورة، إذ تجد بريطانيا نفسها تحت رحمة شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، الضخمة والمهيمنة إلى درجة تشكل فيها احتكارات في مجالاتها، إضافة إلى خضوعها لنزوات رئيس أمريكي متقلب.
مع ذلك، يبدو أن بريطانيا تتعامل مع هذا الوضع بارتياح لافت، بل وتبدو أحياناً متحمسة لدعم تبعيتها الاقتصادية.
وبريطانيا ليست وحدها في خضوعها لنفوذ الشركات الأمريكية، لكنها تقدم نموذجاً واضحاً لسبب حاجة الدول إلى صياغة استجابة منسقة تجاه صعود هذه الشركات المهيمنة.
بدأ عصر الاحتكار التكنولوجي الأمريكي الحالي في العقد الأول من الألفية، حين أصبحت المملكة المتحدة، مثل كثير من الدول الأخرى، تعتمد بالكامل تقريباً على عدد محدود من المنصات الأمريكية مثل “جوجل” و”فيسبوك” و”أمازون” وغيرها.
كان ذلك الوقت اتسم بالتفاؤل تجاه الإنترنت كقوة ديمقراطية، وسط قناعة بأن هذه المنصات ستجعل الجميع أكثر ثراءً.
فقد كان حلم التسعينيات، الساذج لكنه جذاب، يقوم على إمكانية أن يحول أي شخص موهبته أو هوايته إلى مصدر دخل عبر الإنترنت.
لم يكن تفوق التكنولوجيا الأمريكية نتيجة قرار سياسي واحد، لكنه كان في الوقت نفسه خياراً اتخذته الدول، وهو ما يتجلى في قرار الصين حجب المواقع الأجنبية وبناء منظومتها الخاصة.
ورغم أن ذلك كان أسهل في ظل نظام استبدادي، إلا أنه شكل أيضاً سياسة صناعية تركت الصين الاقتصاد الكبير الوحيد الذي يمتلك منظومته الرقمية الكاملة.
استمر النمط ذاته خلال العقدين الأول والثاني من القرن الحالي، فقد سيطرت “أمازون” و”مايكروسوفت” سريعاً على الحوسبة السحابية.
لم يظهر منافس جدي من أوروبا أو المملكة المتحدة لمنصات مثل “أوبر” أو “إير بي إن بي”، بحسب ما ذكرته صحيفة “الجارديان” البريطانية.
لا شك أن هذه الشركات قدمت قدراً كبيراً من الراحة والترفيه، لكن ثروات الإنترنت لم تنتشر بالقدر الذي كان يأمله الكثيرون؛ إذ استحوذت الشركات الأمريكية على الحصة الأكبر، لتصبح أضخم الشركات قيمة في التاريخ.
واليوم يتكرر المشهد نفسه مع الذكاء الاصطناعي، حيث يبدو أن الأرباح الكبرى تتجه مرة أخرى إلى وادي السيليكون.
كيف مر كل ذلك دون مقاومة تُذكر؟
باختصار، اتبعت المملكة المتحدة وأوروبا منطق التجارة الحرة والعولمة، فوفقاً لهذه النظرية، على الدول أن تركز فقط على ما تتقنه.
وكما أنه من المنطقي أن تستورد بريطانيا نبيذ البرغندي الفرنسي ولحم الخنزير الإسباني، بدا من الطبيعي أيضاً الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية بدلاً من محاولة إنتاجها محلياً، مع التركيز على نقاط القوة البريطانية مثل التمويل والصناعات الإبداعية، أو صناعة الويسكي الجيد، لكن حين يتعلق الأمر بهذه المنصات الجديدة، تنهار المقارنة مع التجارة العادية.
فثمة فرق شاسع بين النبيذ الفاخر والتقنيات التي تشكل البنية الأساسية للاقتصاد الرقمي، فالبرغندي قد يكون مكلفاً، لكنه لا يستخرج قيمة من كل معاملة تجارية ولا يجمع بيانات مربحة.
وقد أخفت نظريات التجارة في التسعينيات هذا الاختلاف بين السلع العادية والبنى التحتية السوقية، الأنظمة الضرورية للبيع والشراء، وهذا بالضبط ما تمثله “جوجل” و”أمازون”، وربما تكون المقارنة الأفضل هي السماح لشركة أجنبية ببناء طرق برسوم مرور عبر البلاد وفرض ما تشاء من أسعار.
نرى المشهد ذاته اليوم مع توسع الذكاء الاصطناعي.
ففي أثناء الزيارة الرسمية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في سبتمبر، احتفت المملكة المتحدة باستثمارات “جوجل” و”مايكروسوفت” في “مراكز البيانات”، وهي مستودعات ضخمة للخوادم التي تشغل أنظمة الذكاء الاصطناعي، لكن هذه المراكز تمثل أدنى مستويات اقتصاد الذكاء الاصطناعي، كونها بنية تحتية خاصة تعيد الأرباح مباشرة إلى مقار الشركات الأمريكية.
في سيناريو مختلف، كان يمكن للمملكة المتحدة أن تكون رائدة في الذكاء الاصطناعي، فقد كان الباحثون الأمريكيون متأخرين كثيراً عن نظرائهم البريطانيين والفرنسيين.
مع ذلك، وفي خطوة لم تكن واشنطن أو بكين لتسمحان بها، سمحت بريطانيا بسهولة ببيع معظم أصولها ومواهبها الأساسية في الذكاء الاصطناعي خلال العقد الماضي، وكان استحواذ “جوجل” على “ديب مايند” المثال الأشهر.
ما تبقى اليوم استراتيجية للذكاء الاصطناعي تتلخص في توفير الكهرباء والأراضي لمراكز البيانات، وكأن الدعوة لحضور حفلة تنتهي باكتشاف أنك موجود لخدمة المشروبات.
إذا كانت منصات التكنولوجيا بمثابة طرق برسوم مرور، فإن الخطوة المنطقية هي الحد من حصتها، ربما عبر وضع سقف للرسوم أو فرض رسوم مقابل استخراج البيانات، لكن لم تتجرأ أي دولة على ذلك، فقد قبلنا المنصات دون أن ننظم قوتها كما نفعل مع المرافق العامة الأخرى.
وكانت أقرب محاولة هي “قانون الأسواق الرقمية” في الاتحاد الأوروبي الذي ينظم كيفية تعامل المنصات المهيمنة مع الشركات المعتمدة عليها، أما الحكومة الأمريكية، فعلى الرغم من خضوعها لنفوذ شركاتها التكنولوجية، فإن الكونجرس لايزال عاجزاً.
إذا أرادت المملكة المتحدة السير في طريق مختلف، ومقاومة هذا “الاستعمار الاقتصادي”، فيمكنها التعاون مع الاتحاد الأوروبي وربما اليابان لتطوير استراتيجية مشتركة تفرض على المنصات دعم الشركات المحلية وبناء بدائل للتقنيات الأمريكية الناضجة.
لكن حتى الآن، وعلى غرار دول أخرى متضررة من الهيمنة الأمريكية، لاتزال بطيئة في التكيف، متمسكة بأمل أن وصفات التسعينيات مازالت صالحة، رغم الأدلة العكسية.
الحقيقة أننا نعيش اليوم في عصر أكثر براجماتية ودهاء، فالعالم يحتاج إلى إطار أقوى لمكافحة الاحتكار، يفوق كل ما رأيناه حتى الآن.
بغض النظر عن مكان الإقامة، من الواضح أن العالم سيكون أفضل حالاً بوجود شركات من دول متعددة، أما البديل فهو مكلف وخطير سياسياً، إذ يغذي الاستياء والتبعية، ويمكننا القيام بما هو أفضل من مستقبل تُختزل فيه “الحرية الاقتصادية” إلى خيار بين الاعتماد على الولايات المتحدة أو الاعتماد على الصين.








