أتت موافقة الولايات المتحدة على تصدير رقائق (H200) من ”إنفيديا“ إلى الصين كتحول جذري في السياسة الأمريكية المتعلقة بالتقنية والرقابة على الصادرات، وقد يُعيد تشكيل مسار الصين في مجال الذكاء الاصطناعي.
قرر البيت الأبيض الاثنين السماح لشركة ”إنفيديا“ ببيع شريحة (H200) إلى الصين، وهي أقوى وأفضل شريحة يمكن للصين الحصول عليها قانونياً حالياً، مقابل حصول الحكومة الأميركية على 25% من عائدات كل عملية بيع. قفز سهم ”إنفيديا“ بأكثر من 2% بعد التقارير الأولية عن القرار، وقفز مرة أخرى في التداولات المسائية بعدما أكّده البيت الأبيض.
إن قدرات ذاكرة (H200) تجعلها مناسبةً بشكل خاص للاستدلال، أو معالجة استعلامات الذكاء الاصطناعي على النماذج المُدرَّبة. منذ عام 2022، ركزت ضوابط التصدير بقوة على معايير تهدف إلى تقييد التدريب المتقدم (مثل إجمالي أداء المعالجة)، مع معالجة عرض نطاق الذاكرة بشكل غير مباشر فقط حتى التحديثات اللاحقة.
لكن الاستدلال هو ما سيحدد مدى عمق تأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصادات. يعتمد نشر الذكاء الاصطناعي ودمجه على نطاق واسع على الاستدلال، والقيد الأساسي في هذا الصدد هو سعة نطاق الذاكرة.
رغم أن شريحة (H200) مُحسّنة للاستدلال، إلا أنها تظل شريحة عالية الكفاءة للتدريب، باعتبارها نسخة مطورة من شريحة رائدة سابقة في مجال الذكاء الاصطناعي.
وفقاً لخطة بكين لحوكمة الذكاء الاصطناعي، تُعطي الصين الأولوية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي وتُدمج القدرات الحالية في مختلف قطاعات الاقتصاد، محولةً التركيز من أداء النموذج البحت إلى التطبيق العملي. وتدعم سعة نطاق ذاكرة شريحة (H200) هذه الاستراتيجية.
متطلبات الاستدلال هائلة مقارنة مع تدريب النماذج
تدرب الشركات النموذج مرةً واحدةً، بينما أن الاستدلال يتكرر مليارات المرات يومياً. ويُقدّر أن الاستدلال يستحوذ على ما بين 60% و90% من إجمالي استخدام الحوسبة والطاقة في الذكاء الاصطناعي طوال دورة حياة الأنظمة المنشورة. وهذا يعني أن الحمل التراكمي سيتجاوز في النهاية التدريب، ما يجعل سعة نطاق الذاكرة قدرة بالغة الأهمية.
يحدث تدريب النموذج مرة واحدة، بينما يحدث الاستدلال مليارات المرات يومياً. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن معالج (H200) يمثل قفزة نوعية مقارنةً بأفضل شريحة ”إنفيديا“ التي يمكن للصين الحصول عليها قانونياً – وهي (H20) – من حيث أداء التدريب.
حتى لو كانت شريحة ”أسيند“ (Ascend) الأحدث من ”هواوي“ تنافس من حيث التدريب، فإن قدرات الصين الإجمالية ما يزال يحد منها الإنتاج المحلي، الذي تُقدره الحكومة الأمريكية بنحو 200 ألف شريحة هذا العام (مع أن خارطة طريق ”هواوي“ تشير إلى زيادة سريعة في الإنتاج). بالتالي، فإن الحصول على (H200) سيخفف من اختناق كبير في التدريب، بالإضافة إلى اختناق الاستدلال.
غالباً ما تكون نماذج الاستدلال المتقدمة مُقيدة بالذاكرة، لأنها “تستدل” على المشكلات خطوة بخطوة أثناء الاستدلال، لذا يعتمد الأداء بشكل كبير على عرض نطاق الذاكرة. وتُعد سعة الذاكرة وعرض نطاقها في (H200) من العوامل الحاسمة لتسريع هذه العمليات.
مشاكل نقص الذاكرة في الصين
تواجه شركات تصنيع الرقائق الصينية المحلية، مثل ”هواوي“، صعوبة في الوصول إلى ذاكرة النطاق الترددي العالي، إذ تقيد ضوابط التصدير الأمريكية المفروضة على ”سامسونج“ و“إس كيه هاينكس“ (SK Hynix) استخدام ذاكرة النطاق الترددي العالي، التي تمكن معالجات (H200) من إجراء الاستدلال.
تشير تقارير شركة ”سيمي أناليسيس“ (SemiAnalysis) إلى أن ”هواوي“ قد خزنت كمية كبيرة من ذاكرات النطاق الترددي العالي تكفي لدعم خطة إنتاجها للعام المقبل تقريباً، إلا أن الوصول إلى معالجات (H200) من شأنه أن يزيل فعلياً مشكلة نقص الذاكرة في الصين.
يُظهر هذا القرار الأخير، بالإضافة إلى قضية (H20) في وقت سابق من هذا العام، مدى تحول الحوار في واشنطن عن الحرمان من التقنية. على الرغم من تشديد قيود التدريب، قدّم معالج (H20) نطاقاً ترددياً للذاكرة يتجاوز حتى نطاق معالج (H100) الرائد السابق.
في نهاية المطاف، وافقت واشنطن على تصدير معالجات (H20) انطلاقاً من فرضية أن الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة على الصادرات من خلال الاستحواذ على حصة أكبر في السوق العالمية من شأنه أن يعزز صناعة الذكاء الاصطناعي الأميركية أكثر من الحرمان من التقنية بشكل كامل.
كما كان من أهداف الاستراتيجية تعزيز التبعية، إذ أن التحكم في الوصول سيُبقي الشركات الصينية معتمدة على التقنية الأميركية، وسيُبطئ من تطور بيئة محلية مستقلة. وربما استند القرار المتعلق بشريحة (H200) إلى منطق مماثل.
حل وسط لسياسات أمريكية وصينية متعارضة
بعد ذلك بوقت قصير، ثبطت بكين عمليات الشراء. وقد قوّض هذا استراتيجية التبعية التي تتبناها الحكومة الأميركية، وأشار إلى ثقة بكين بأن الخيارات المحلية كافية لتجاوز السياسة للمنطق التجاري.
لكن قد يكون صعباً على شركات الذكاء الاصطناعي الصينية التخلي عن (H200)، لما يتمتع به من سعة ذاكرة فائقة وقفزة نوعية في قدرات التدريب. وادعى ترمب أنه عندما أبلغ الرئيس الصيني شي جين بينغ بقرار بيع (H200) “استجاب شي بشكل إيجابي”.
يمكن اعتبار هذه الخطوة بمثابة حل وسط، بعد أن ذكرت صحيفة ”وول ستريت جورنال“ أن معارضة على مستوى الوزراء حالت دون موافقة إدارة ترامب على تصدير رقائق ”بلاكويل“ قبل المحادثات الأمريكية الصينية في كوريا. يمكن تبرير استخدام معالج (H200)، المبني على هندسة شريحة ”هوبر“ (Hopper) القديمة الذي حلّت محله الآن هندسة ”بلاكويل“ (Blackwell)، كخيار وسط. وقد أوضح ترمب، عند إعلانه القرار، أنه لا يشمل معالجات ”بلاكويل“ أو معالجات ”روبين“ (Rubin) الآتية.
من المهم التذكير، خاصة بعد قضية (H20)، بأن لبكين رأياً في وصول ”إنفيديا“ إلى السوق الصينية.
يبقى السؤال المطروح هو ما إذا كانت ستلجأ مجدداً إلى المخاوف الأمنية لتثبيط شراء معالجات (H200) رغم التحسينات الواضحة في الأداء. بفضل البنية التحتية من فئة (H200)، يستطيع مزودو الخدمات الصينيون تقديم خدمات ذكاء اصطناعي تنافسية عالمياً بتكلفة أقل، وتدريب نماذج أكثر كفاءةً، لا سيما مع التقدم الكبير الذي أحرزوه في جودة النماذج في ظل قيود حاسوبية أضيق.
