في سوق تأمينية ما تزال تسعى لتوسيع قاعدتها المجتمعية وتعزيز الثقة بين الشركات والعملاء، يبرز الذكاء الاصطناعي كأحد أكثر الأدوات إثارة للجدل والرهان في آن واحد.
فبينما تراهن شركات التأمين العالمية على الخوارزميات لتحسين التسعير وتسريع المطالبات وكبح الاحتيال، يطرح الواقع المصري تساؤلات أكثر تعقيدًا تتعلق بجودة البيانات والجاهزية التنظيمية والفجوة الرقمية وحدود قبول العملاء للأتمتة في قطاع يقوم في جوهره على الثقة.
.. لكن كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قطاع التأمين؟ وهل تلك التقنيات تمثل فرصة حقيقية لتطوير كفاءة السوق المصرية وتحسين تسعير المخاطر وتسوية المطالبات؟ أم إنها تفتح الباب أمام تحديات جديدة تتعلق بجودة البيانات وعدالة القرارات الخوارزمية ومستقبل الثقة بين شركات التأمين والعملاء، في سوق ما تزال تخوض أولى خطواتها نحو التحول الرقمي الكامل؟.
جودة البيانات “تحدٍ تقني” بالسوق
قال وائل ثروت خبير التأمين التكنولوجي العالمي، إن شركات التأمين المصرية اعتمدت تاريخيًا كما في غيرها من الأسواق الناشئة، على نماذج رياضية وإحصائية كلاسيكية لتقييم المخاطر وتسعير وثائق التأمين، بينما ظلت تلك النماذج، رغم فعاليتها النسبية، محدودة في قدرتها على استيعاب التعقيد المتزايد في سلوك العملاء وتغير أنماط المخاطر المرتبطة بالمناخ والصحة والاقتصاد غير الرسمي.
وأضاف لـ”البورصة” ، أن تسارع التحول الرقمي أدى إلى فرض الذكاء الاصطناعي لنفسه، كأداة قادرة على إعادة رسم خريطة العمل التأميني، لكن بشروط تختلف جذريًا عن تلك السائدة في الأسواق المتقدمة.
أوضح ثروت، أن الذكاء الاصطناعي دخل إلى سوق التأمين المصرية من بوابة تحسين الكفاءة التشغيلية في المقام الأول، مبينًا أن معالجة المطالبات، التي تُعد أحد أكثر الملفات حساسية من حيث رضا العملاء، تمثل مجالًا واعدًا للأتمتة الذكية، سواء عبر تحليل المستندات تلقائيًا أو تسريع قرارات القبول والرفض.
وتابع أن سرعة التقنية تؤدي إلى تسريع الدورة الورقية للمستندات، مشيرًا إلى أن ذلك لا يعني فقط خفض التكاليف، بل وعدًا بإعادة بناء ثقة طالما اهتزت بسبب بطء الإجراءات وتعقيدها، غير أن ذلك يصطدم بواقع البيانات، إذ ترزح الكثير من الشركات تحت قواعد بيانات غير مكتملة أو غير مهيكلة، ما يجعل الخوارزميات عرضة لإنتاج قرارات غير دقيقة أو متحيزة.
أوضح ثروت، أن جودة البيانات تمثل “تحدٍيا تقنيا” بالسوق المصرية وانعكاس لبنية اقتصادية واجتماعية معقدة، تتداخل فيها أنماط العمل غير الرسمي وضعف التغطية التأمينية وتفاوت مستويات الإفصاح، مشيرًا إلى أن ذلك يجعل الذكاء الاصطناعي سلاحًا ذو حدين، إذ يمكنه تحسين دقة التسعير، لكنه قد يؤدي في الوقت ذاته إلى استبعاد فئات واسعة إذا بُني على بيانات لا تعكس الواقع كاملًا.
ولفت إلى أن دور الجهات التنظيمية يتمثل في ضبط استخدام البيانات ومنع التمييز الخوارزمي، مشيرًا إلى أن أحد أكثر مجالات الذكاء الاصطناعي جذبًا لشركات التأمين في مصر يتمثل في مكافحة الاحتيال، خاصة في التأمين الطبي وتأمينات السيارات، إذ إن الاحتيال لا يمثل فقط خسارة مالية مباشرة، بل ينعكس على ارتفاع الأقساط وتآكل ثقة العملاء الملتزمين.
وأشار ثروت، إلى أن الخوارزميات المتقدمة المدعومة بالتعلم الآلي وتحليل الأنماط تتيح رصد السلوكيات غير الطبيعية بسرعة تفوق القدرات البشرية، إلا أن ذلك التقدم يطرح تحديات قانونية وأخلاقية تتعلق بخصوصية البيانات، لا سيما مع الاتجاه العالمي نحو استخدام بيانات الأجهزة القابلة للارتداء أو السجلات الصحية الرقمية، وهي مجالات ما يزال الإطار التنظيمي المصري يتعامل معها بحذر.
وكشف أن تأثير الذكاء الاصطناعي يمتد إلى مجالات أقل وضوحًا للجمهور، لكنها بالغة الأهمية لقطاع التأمين، مثل إدارة مخاطر طول العمر والتنبؤ بالوفيات في تأمينات الحياة والمعاشات، مشيرًا إلى أن التحولات الديموغرافية وتغير أنماط الصحة العامة تزيد أهمية نماذج التنبؤ الدقيقة التي بات الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحسينها مقارنة بالنماذج التقليدية، مبينًا أن تلك التطورات تكتسب بعدًا خاصًا في مصر، إذ يتزايد الاهتمام بتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية وربط التأمين التجاري بأهداف أكثر شمولًا.
تحديث الأطر الرقابية ليس خيارًا
قالت باسمة مندور، نائب رئيس قطاع القنال بشركة ثروة للتأمين، إن أكبر التحديات التي تواجه تطبيق الذكاء الاصطناعي في قطاع التأمين المصري لا تتعلق بالتكنولوجيا ذاتها، بل بالثقة، مشيرة إلى أن الاعتماد المتزايد على الخوارزميات يثير مخاوف من تراجع الدور الإنساني في اتخاذ القرار، في قطاع اعتاد العملاء فيه على التفاعل المباشر والمرونة الشخصية.
وأضافت لـ”البورصة” أن مخاوف انتشار ما يُعرف بخوارزميات “الصندوق الأسود” تتزايد، إذ يصعب تفسير قراراتها حتى على مديري المخاطر أنفسهم، ولكنها تشير إلى أن مفهوم الذكاء الاصطناعي قابل للتفسير كحل محتمل يتيح فهم منطق القرار ويعزز الشفافية ويعيد بناء جسور الثقة بين الشركات والعملاء.
وذكرت مندور، أن الأسواق المتقدمة تشهد حراكًا تشريعيًا متسارعًا لضبط استخدام الذكاء الاصطناعي، بينما ما تزال السوق المصرية في مرحلة البحث عن التوازن بين تشجيع الابتكار وحماية حقوق المستهلكين.
وتابعت أن التحدي الأكثر تعقيدًا يتمثل في الاعتماد على مزودي خدمات تكنولوجية خارجيين وما يترتب عليه من مخاطر تتعلق بأمن البيانات والسيادة الرقمية، مشيرة إلى تحديث الأطر الرقابية ليس خيارًا، بل شرطًا أساسيًا لضمان تحول رقمي آمن ومستدام بالسوق المصرية.
بناء نماذج تراعي الخصوصية
أكد إيهاب خضر ، خبير الإدارة الاستراتيجية ووسيط التأمين ، أن الفجوة الرقمية تفرض نفسها كعامل حاسم في نجاح أو فشل تطبيقات الذكاء الاصطناعي بقطاع التأمين، فبينما قد ترحب شرائح شابة ومتصلة رقميًا بالخدمات المؤتمتة، قد تجد فئات أخرى، خاصة كبار السن أو سكان المناطق الأقل حظًا من حيث البنية التحتية، نفسها خارج دائرة الاستفادة.
وأضاف لـ”البورصة” أن الذكاء الاصطناعي يحمل قدرة حقيقية على تطوير صناعة التأمين، لكنه في الوقت ذاته يختبر هشاشة منظومة البيانات وحدود الثقة وجاهزية الإطار التنظيمي.
وتابع خضر، أن النجاح في اختبار استخدم الذكاء الاصطناعي بقطاع التأمين لن يتحقق عبر استيراد الحلول الجاهزة، بل من خلال بناء نماذج محلية تراعي الخصوصية الاقتصادية والاجتماعية للسوق المصرية وتضع الإنسان في قلب المعادلة لا على هامشها.
وبين وعود التحول الرقمي ومخاوف فقدان الثقة، يبقى السؤال مفتوحًا أمام صناع القرار في قطاع التأمين المصري: كيف يمكن تسخير الخوارزميات لتعزيز العدالة والكفاءة دون التحول إلى عائق جديد أمام انتشار التأمين في مجتمع ما يزال يبحث عن الأمان قبل الابتكار؟








