للوهلة الأولى، قد تبدو الولايات المتحدة وكأنها صاحبة السلطة العليا فى حربها التجارية مع الصين، وقد تدل أرقام العجز التجارى الثنائى البالغة 419 مليار دولار فى العام الماضى على قدرتها على فرض تعريفات جمركية على العديد من المنتجات الصينية وليس العكس.
ولكن هناك أمراً قد يكون أكثر أهمية من الأرقام بالنسبة للصين، وهو رغبة المستهلكين لديها فى مقاطعة المنتجات الأمريكية، مما قد يحدث عواقب فورية ودائمة للشركات الأمريكية.
وذكر الكاتب بيتر فانهام، زميل برنامج القيادة العالمية، فى مقال بصحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، أن المنافسة فى الصين شرسة للغاية ويمكن للمنافسين استخدام أى مقاطعة للتعامل مع أى ضربة دائمة قد توجه لاقتصاد بلادهم.
وتعد فكرة اتخاذ المستهلك العقلانى قرارات الشراء استناداً على عوامل أخرى غير المنفعة المباشرة فكرة مثيرة للجدل، فالمستهلكين الصينيين لا يتبعون دائما النظرية الاقتصادية التقليدية.
سلط فانهام الضوء على شركة «لوت» الكورية الجنوبية للخدمات اللوجيستية، التى كانت تتواجد بشكل كبير فى السوق الصينى حتى وقت قريب، فقد كانت تدير 112 متجراً فى عام 2017 بعد دخولها الصين قبل عقد من الزمن، ولكن عندما اتفقت الشركة على بيع ناد ريفى تملكه فى كوريا لإفساح المجال أمام تركيب نظام «ثاد الدفاعى الأمريكى المضاد للصواريخ»، أعرب المستهلكون الصينيون عن رفضهم للأمر.
واعتبرت الحكومة الصينية نظام «ثاد»، الهادف لحماية كوريا الجنوبية من جارتها الشمالية، تدخلاً غير مرحب به، كما أن المستهلكين الصينيين قاطعوا متاجر التجزئة الكورية بمجرد أن وافقت «لوت» على بيع أرضها.
وكانت ردود فعل المستهلكين فى أجزاء أخرى من العالم متفاوتة على مر التاريخ، فقد استغرقت الحركة المناهضة لنظام الفصل العنصرى والمقاطعة، على سبيل المثال، سنوات عديدة لاكتساب زخماً، على عكس الصين التى يرغب مستهلكيها فى التصرف سريعاً وإحداث أثر كبير، فبعد ستة أشهر من بدء المقاطعة أعلنت «لوت» انسحابها من البر الرئيسى نظراً لخسائرها الفادحة.
ولم تكن هذه الحالة هى الأولى التى تثير غضب المستهلك الصينى، ففى عام 2012 انخفضت مبيعات السيارات اليابانية بنسبة %11 فى الصين خلال فترة مقاطعة البضائع اليابانية، التى جاءت نتيجة الصراع بين الصين واليابان حول جزر سينكاكو ذات الموقع الاستراتيجى.
ولا يزال الوضع بين البلدين غير مستقر، ولكن الأضرار التجارية للشركات اليابانية كانت حقيقية.
وعندما نشب خلاف بين الفلبين والصين حول بحر الصين الجنوبى، لم يتمكن منتجو الموز الفلبينيين من العثور على مشترين فى أكبر سوق بالنسبة لصادراتها، واستغرق الأمر عدة سنوات لإعادة اكتشاف المستهلكين الصينيين شهيتهم تجاه الموز الفلبينى.
ولكن عندما قام الرئيس الفلبينى المنتخب حديثاً رودريغو دوترتي بتطبيع العلاقات مع بكين، غير المستهلكون الصينييون رأيهم تجاه الأمر، ومن ثم استطاعت الفلبين تصدير موز بقيمة 288 مليون دولار إلى الصين فى عام 2017، بزيادة نسبتها %50 عن عام 2016.
كل تلك الأمور تثير التساؤلات حول ما إذا كان بإمكان مقاطعة مماثلة إصابة الشركات الأمريكية مع استمرار النزاع التجارى؟ وهل يمكن لتلك المقاطعة تغيير الوضع التنافسى للشركات الأمريكية بشكل دائم؟.
أجاب جين تسانغ رونغ، أستاذ الدراسات الدولية بجامعة رينمين الصينية، على هذه التساؤلات بـ»نعم» فى مقال نشرته صحيفة «جلوبال تايمز» مايو الماضى.
أوضح رونغ أن الشركات الأمريكية دخلت السوق الصينى منذ العصور الأولى، واستطاعوا جنى أرباح كبيرة فى هذا السوق بشكل أعلى من الأرباح التى حققتها الشركات الصينية فى الولايات المتحدة.
ووصف رونغ أنشطة الشركات الأمريكية فى الصين بأنها واحدة من أوراق بكين الثلاثة الرابحة فى حرب تجارية ستفوز بها ضد الولايات المتحدة، أما الورقتين الرابحتين الأخرتين فيتمثلان فى قدرة الصين على حظر تصدير المعادن الأرضية النادرة إلى الولايات المتحدة وبيع مخزونها الهائل من سندات الخزانة الأمريكية.
وليس هناك ما يوضح ما إذا كانت هذه الآراء ستكتسب زخماً، ولكن إذا استطاعت ذلك فستتاح الفرصة أمام المستهلكين الصينيين لتجاوز ما تسعى وتتفاوض عليه حكومتهم، وفى هذه الحالة ستكون العواقب بالنسبة للشركات الأمريكية، مثل «ستاربكس» و»أبل» و»جنرال موتورز»، والتى تضم العديد من العملاء الصينيين، حقيقية ودائمة.
فى الواقع، يمكن أن تتحول الخسائر غير المقصودة فى الحصة السوقية سريعاً إلى أمر يصعب تغييره فى البيئة التنافسية بالصين، حيث يتحرك المنافسون الآخرون وتحدث التغييرات فى عادات المستهلك أو ولائه.
وربما يكون هناك مصير مماثل لشركة «لوت» الكورية الجنوبية، التى فقدت ميزتها التنافسية حتى بعد المقاطعة، فى انتظار الشركات الأمريكية، فعلى سبيل المثال واجهت شركة «أبل» رياحاً معاكسة، حيث انخفضت مبيعات هواتف «أى فون» فى الصين بنسبة %30 خلال الربع الأول من العام الجارى لتصل إلى 6.5 مليون وحدة مقارنة بـ9.3 مليون فى العام السابق.
وربما يكون ذلك نتيجة رد فعل المستهلك الصينى على الحملة الأمريكية ضد شركة «هواوى» الصينية، مما يدل على أن الصين ستستهدف «أبل» إذا كانت تريد حقاً الانتقام.
وفى الوقت نفسه، استطاعت «هواوى» تحقيق أكبر مكاسب بسوق الهواتف الذكية فى الصين خلال السنوات الأخيرة، فهى توفر أجهزة عالية الجودة ومنخفضة التكلفة يفضلها العديد من المستهلكين، بصرف النظر عن الحرب التجارية.
فى مثل هذه البيئة الشرسة والتنافسية، يمكن أن تتسبب الرياح المعاكسة الإضافية لمقاطعة المستهلكين الصينيين فى عرقلة مسار شركة «أبل» وغيرها من الشركات الأمريكية لسنوات قادمة، وستفقد الشركات الأمريكية مكانها وسط ما سيكون أكبر سوق استهلاكى فى العالم على المدى القريب.