إذا تخيلت معى أن أزمة تكلفة معيشة ألحقت أقصى الأضرار بالأفراد الأقل قدرة على تحملها، فإن الوضع الاقتصادى الحالي فى بريطانيا لن يختلف كثيرًا عن ذلك.
لماذا؟ أولاً لأن أزمة اليوم مدفوعة بشكل أساسى بالزيادة الحادة فى الغذاء والطاقة، وهى التكاليف التى تستحوذ عل الحصة الأكبر من ميزانيات الأشخاص الأقل دخلاً مقارنة بمن هم فى وضع أفضل.
مؤخرًا، وجد مكتب الاحصاءات الوطنية أن التضخم فى تكاليف الأسر الأقل دخلاً يسجل 10.1%، فيما بلغ 8.7% للأسر ذات الدخل المرتفع.
التأثيرات الحقيقية لذلك الاختلال كانت مدمرة، لأن الأسعار ارتفعت فى أكثر مناحى الانفاق التى يصعب خفضها دون معاناة، فالناس لا يقوون على شراء الطعام، ويجلسون فى الظلام والبرد ويخشون تشغيل غسالات الصحون والأفران.
وتُظهر أحدث بيانات التضخم أن تضخم الغذاء مازال مرتفعًا، حتى رغم تباطؤ الضغوط التضخمية فى التكاليف الأخرى.
وكانت هناك زيادات فى الأسعار مبكية فى بعض المنتجات، والتى تعد حجر أساس فى الوجبات التى تكون بمتناول اليد مثل اللبن الذى ارتفع 33%، والبطاطس التى زادت 28%، والبيض الذى قفز 37%.
وفى بحث أجرته مؤسسة “تروسل تراست” الخيرية، قالت إحدى ربات الأسر واصفة معاناتها اليومية لتبقى عائلتها نظيفة وشبعة: “الأطفال يأكلون لكن أنا وزوجى نادرًا ما نفعل.. لم أدفع فاتورة المياه، وبنهاية الشهر الحالى سأتعثر فى سداد فاتورة جديدة، خاصة مع ارتفاع تكاليف الغذاء”.
ولعل الضرر الذى تسببه الأزمة يتفاقم لأنه جاء عقب الأثر غير المتكافئ للوباء على الأشخاص الذين يكافحون بالفعل.
لقد تكبد العاملون الأكثر فقرًا السواد الأعظم من فقدان الوظائف وقت تفشي جائحة كورونا، وانخفاض الدخل، وخلال الجائحة، احتفظ معظم الأشخاص ذوو الدخل المرتفع برواتبهم وحتى أنهم عززوا مدخراتهم، بينما اضطر الأشخاص ذوو الدخل المنخفض إلى تحمل المزيد من الديون لتغطية التكاليف التي ارتفعت مع انخفاض دخولهم.
تزايدت حساسية الطبقات الأفقر، للجائحة أولاً، ثم تكلفة المعيشة حاليًا، لأنه على المدى الطويل، ترسخ اتجاه الفقر العميق.
ووجد، بحسب ما نقلته مؤسسة “جوزيف رونترى”، أنه خلال الفترة بين عامي 2017 و 2019، ارتفع الفقر المدقع فى المملكة المتحدة بنحو 54%.
وفى ظل كل ذلك، امتد الدعم لمستويات خارج السيطرة.
ففى أغسطس الماضى، كتب قادة “خدمات الصحة” البريطانية لرئيس الوزراء محذرين أن أزمة المعيشة قد تصبح أزمة صحية، فى ظل تأثير الفقر على صحة الناس، وذلك الضغط الإضافى على قطاع الرعاية الصحية المُفيد بالفعل، على الأرجح تزايد خلال العام الماضى.
ولعل أكثر ما سيصدمك هو حقيقة أن بنوك الطعام فى شبكة “تروسل تراست” قدمت ما يصل إلى 3 ملايين وجبة طعام العام الماضى، مع توجيه مليون منها للأطفال فى زيادة 37% عن وجبات الاغاثة التى وُزعت العام الأسبق، بما يعكس مستوى تاريخي للعوز فى كل ركن من المملكة المتحدة.
لكن أرقامنا المدعومة ببحث آخر عن الفقر العميق والصعوبات المعيشية تُظهر أن ذلك ليس مفاجئًا، لكنه أحدث فصول أزمة طويلة المدة، مع تزايد نسبة العوز أكثر من الضعف خلال الخمسة أعوام الماضية.
المتطوعون والموظفون فى بنوك الطعام نهضوا فى مواجهة كل تحدى وتصدوا لكل موجة من موجات العوز، ومازالوا يفعلون ذلك، لكنهم أُنهكوا، والكثير منهم مُتعب حتى أخمص قدميه، قادة أحد بنوك الطعام يصف ذلك بأنه أشبه بـ”حلة الضغط”، وآخر أشار هو يصف”فترات الذروة والانخفاضات في الطلب” في البيانات الشهرية، عن هذا العام: “للأسف ، لقد وصلنا إلى مستوى جديد لم نرغب أبدًا في الوصول إليه”.
يتضح كل يوم أكثر لنا جميعًا أن بنوك الطعام ودعم المؤسسات الخيرية ليس الحل، وبالرغم من أن تضخم الطعام من المتوقع أن ينخفض بعد تراجع أسعار مدخلات الإنتاج من طاقة ومواد خام، لكن ذلك لن يضع حدًا للأزمة، فملايين البشر سيجدون نفسهم غير قادرين على شراء الأساسيات، وسيكونون محاصرين فى مواقف لا يحسدوا عليها، لحين إيجاد حلول مستدامة تبدأ بإصلاح نظام الائتمان الشامل المعنى بتقدم الدعم لمن هم فوق الـ18 عام وتحت سن التقاعد.
ويبدو أنه من غير المعقول أن قيمة ما تقدمه تلك الآلية لا يتناسب مع الأساسيات الفعلية للمعيشة، ولكن ذلك هو الوضع، وانعكس ذلك فى عدم كفايته تكاليف الطعام والملابس والأدوات المنزلية الأساسية مثل منتجات التنظيف.
لقد حسبنا أن شخصًا بالغًا يحتاج إلى 120 جنيهًا إسترلينيًا في الأسبوع لتغطية هذه النفقات، لكن الائتمان الشامل لا يوفر سوى 85 جنيهًا إسترلينيًا فقط.
وأخيرًا، المؤسسات الخيرية بمفردها ببساطة ليس بوسعها التعامل مع المسببات الجذرية لتلك المعاناة غير المقبولة، فنحن لن نستطيع فعل ما يكفى لكبح جماح موجة الجوع.
بقلم: هيلين بارنارد، مديرة قسم السياسات والبحوث والتأثير فى مؤسسة “تروسل تراست” الخيرية
المصدر: صحيفة “فاينانشيال تايمز”
