في خضم ارتفاع الدولار الذي دام ثلاثة أعوام، وأدى إلى تفاقم الضغوط التضخمية وتحفيز تدفقات رأس المال إلى الخارج من آسيا، يسعى عدد متزايد من زعماء المنطقة إلى الحد من اعتماد بلدانهم على العملة الأمريكية.
يجري تداول حوالي ثلاثة أرباع التجارة الآسيوية، حتى داخل المنطقة، بالدولار، وفقًا لبحث نشره بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
وربما يكون نحو 50 ـ 60% من المدخرات الآسيوية، احتياطيات البنوك المركزية وأصول صناديق الثروة السيادية والثروات الخاصة، مملوكة بأصول دولارية، وكثيرًا ما تكون القروض مقومة بالدولار أيضًا.
ترتبط العديد من العملات في المنطقة بشكل صريح بالعملة الأمريكية أو يتم إدارتها مقابلها، بحسب ما أوضحته مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
بالتالي، فإن التغيرات في قيمة الدولار أو أسعار الفائدة المستندة إلى الدولار تؤثر على الثروة الآسيوية ومستويات الديون.
واستمرار السياسة المالية والنقدية المسرفة في الولايات المتحدة يعني أن القوة الشرائية للدولار على المدى الطويل ليست مضمونة.
تعد القيمة التي يمكن تحقيقها لاستثمارات آسيا بالدولار أمر مشكوك فيه.
ومن شأن تصفية ممتلكات الصين البالغة 805 مليارات دولار من سندات الخزانة الأمريكية، توليد خسائر فادحة ،إذ ستنخفض أسعار الأوراق المالية ويتأثر سعر الصرف، ومن الممكن أن تؤدي مثل هذا الإعادة الكبيرة للأموال إلى زعزعة استقرار قيمة اليوان.
ويواجه مستثمرون آسيويون كبار آخرون نفس المشكلات.
والأهم من ذلك، أن المدفوعات المقومة بالدولار يجب أن تتدفق عبر النظام المالي الأمريكي، وهذا يسمح للولايات المتحدة بتطبيق قوانينها على الأفراد والمنظمات في الخارج.
وتستخدم واشنطن بشكل متزايد العقوبات والقيود التجارية وحتى المصادرة كأسلحة اقتصادية.
ومع ذلك، فمن غير المرجح أن يحقق تراجع الدولار الكثير في المدى القريب.
يمكن تفسير ذلك جزئياً بما يسميه الاقتصاديون معضلة “ماندل-فليمنج”، إذ يرى هذا النموذج أن الدول تواجه الاختيار بين الحفاظ على سياسة نقدية مستقلة، والسماح بحرية حركة رأس المال، أو وجود سعر صرف ثابت، مع إمكانية تحقيق اثنين فقط من أصل الثلاثة في وقت واحد.
وثمة أيضاً مفارقة تريفين، ومفادها: “لكي تعمل أموال أي دولة كعملة احتياطية عالمية، فلابد أن تكون على استعداد لتحمل عجز تجاري ضخم لتوفير الإمدادات الكافية لتلبية الطلب العالمي على الاحتفاظ بالاحتياطيات بهذه العملة”.
تشمل المعايير الأساسية الأخرى لوضع العملة الاحتياطية أسواق رأس المال العميقة والسائلة، وجودة الائتمان العالية، وآليات المقاصة والتحويل المناسبة، والحوكمة القوية، والإنفاذ القانوني للاتفاقيات، والقبول العالمي.
أما المتنافسون المحتملون، مثل اليوان واليورو، فلا يستوفون جميع المعايير، وهذا قد يكون بسبب عدم رغبة صُناع القرار في التنازل عن السيطرة الاقتصادية الوطنية إلى الدرجة المطلوبة، والنتيجة هي أنه لا يوجد خليفة واضح للدولار.
تظهر العديد من الاحتمالات المستقبلية والتي تشمل إنشاء عملة آسيوية مشتركة، على غرار اليورو، لكن أزمة الديون الأوروبية كشفت عن العيوب المتأصلة في هذا الخيار.
ومن غير المرجح أن تقبل الدول الآسيوية ذات الاقتصادات والثقافات الشديدة، التباين التكامل السياسي والمالي اللازم لدعم وحدة مشتركة.
ثمة خيار آخر وهو إجراء التجارة عبر الحدود بالعملات المحلية، لكن هذا صعب من الناحية العملية، فكل من المصدرين والمستوردين سيفضلون عملاتهم الخاصة، مما يثير التوترات.
وتستورد الهند أكثر مما تصدر إلى الصين، وإذا كانت تجارتهما مقومة بالروبية، فإن هذا سيترك للصين فائضًا من العملة الهندية، وهو ما سيفرض عليها أن تجد شيئًا لتفعله بشأنها.
وبدلاً من ذلك، إذا جرت التجارة باليوان، فستضطر الهند إلى تمويل العجز الناتج.
وغالبًا ما لا يكون الوصول المجاني المطلوب إلى الاستثمارات والتمويل بالعملات الأخرى لدعم هذا النوع من التداول متاحًا.
في الواقع، كانت صياغة المشكلة غير صحيحة، فاعتماد آسيا على الدولار يعد نتيجة ثانوية لنموذج اقتصادي معين وما يصاحبه من اختلالات في التوازن.
منذ التخلي عن معيار الذهب عام 1973، كان الدولار الأمريكي هو الشئ الوحيد القابل للاستخدام كعملة احتياطية عالمية.
ويعتمد نموذج التنمية الآسيوي على المدخرات الكبيرة، والصادرات المرتفعة، والعملة المقومة بأقل من قيمتها.
سمح الآسيويون للولايات المتحدة بالعمل كمستهلك الملاذ الأخير، فيما قاموا في الوقت نفسه بإعادة تدوير فوائضهم التجارية من خلال الاستثمار في الأصول الأمريكية، وهو ما يعمل بعد ذلك بشكل فعال على زيادة تمويل الاستهلاك الأمريكي، وقد أطلق البعض على هذا النموذج اسم “تشيميريكا”.
يتطلب خفض الاعتماد على الدولار إعادة النظر في الاقتصاد الأساسي في آسيا، كما سيحتاج الاستهلاك المحلي إلى دفع النمو، وسينخفض الاعتماد على الصادرات.
ولا شك أن تحقيق هذه الغاية سيتطلب تغييرات من شأنها أن تشكل تحدياً عميقاً للترتيبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، لكن آسيا ليست أمامها خيارات كثيرة.








