يشهد سوق التأمين المصري حراكًا غير مسبوق نحو إعادة الهيكلة، مدفوعا بموجة من التعديلات التشريعية التي تستهدف تعزيز استقرار القطاع، ورفع جاذبيته للاستثمار، وسط بيئة اقتصادية تتطلب كيانات قوية وملاءة مالية عالية.
ففي مطلع 2025، أصدرت الهيئة العامة للرقابة المالية القرار رقم 5 لسنة 2025، ليُدخل تعديلات على القرار 178 لسنة 2024، إذ ألزم الشركات بالحصول على موافقة الجمعية العامة غير العادية في حالات الاندماج، مع تحديد مهلة لا تتجاوز 6 أشهر لإتمام العملية من تاريخ تقديم الطلب.
كما نص القرار على وقف حقوق التصويت وتوزيعات الأرباح حال المخالفة، في خطوة تهدف لتشديد الانضباط في إدارة عمليات الدمج.
جاء ذلك بالتوازي مع تطبيق قانون التأمين الموحد رقم 155 لسنة 2024، الذي رفع الحد الأدنى لرأس المال المدفوع لشركات التأمين إلى 500 مليون جنيه، ما يشكل تحولًا نوعيًا في بيئة عمل الشركات، ويعكس توجهًا رقابيًا يهدف إلى تعزيز قدرة الشركات على الوفاء بالتزاماتها وتحقيق الاستدامة.
وأجمع الخبراء على أن مستقبل قطاع التأمين المصري مرهون بقدرة السوق على استيعاب تلك التغييرات، ومدى مرونة التشريعات في التطبيق، فضلًا عن قدرة الكيانات القائمة على التحول من كيانات محدودة رأس المال إلى شركات قوية ذات أثر استثماري وخدمي ملموس، ومع استمرار الإصلاحات، ووضوح الرؤية التنظيمية، قد يشهد السوق المصري في السنوات المقبلة موجة استحواذات أوسع، تُعيد رسم خريطة التأمين المحلي، وتفتح الباب أمام استثمارات إقليمية ودولية جديدة، في واحد من أكثر القطاعات احتياجًا للتوسع.
ورغم إيجابية التوجه العام، يرى خبراء السوق أن التطبيق العملي لا يزال يواجه تحديات هيكلية، أبرزها تعقيد الإجراءات وتعدد الجهات صاحبة القرار، ما يبطئ وتيرة الدمج ويُقلل من استفادة السوق من الفرص المتاحة.
تنظيم مشدد.. وبيئة معقدة تعوق الاندماجات
وصف سيف عوني، العضو المنتدب لشركة إيليت للاستشارات المالية، التعديلات الأخيرة بـ”الخطوات المهمة”، لكنها تصطدم بواقع تنظيمي معقد.
أضاف: “رغم ما تحمله تلك التعديلات من نوايا جيدة، فإنها تصطدم بتشابكات إدارية، وموافقات مطلوبة من جهات متعددة، ما يجعل من تنفيذ عمليات الاندماج والاستحواذ مهمة صعبة”، على حد تعبيره.
وأكد عوني أن التعقيدات الحالية قد تُثني بعض المستثمرين عن خوض تجارب استحواذ رغم ما تحمله من فائدة استراتيجية للقطاع، مطالبا بآليات تنفيذ أكثر مرونة وتوافقاً مع طبيعة السوق المحلية، من أجل تفعيل تلك التعديلات بشكل فعّال. وشدد على ضرورة تقليل البيروقراطية وزيادة الشفافية.
البيئة التنظيمية تدفع نحو الدمج طوعًا
قال محمد حسن، العضو المنتدب لشركة ألفا لإدارة الاستثمارات المالية، إن رفع الحد الأدنى لرؤوس الأموال سيجبر العديد من الشركات متوسطة وصغيرة الحجم على البحث عن حلول بديلة لتوفيق أوضاعها، في مقدمتها خيار الاندماج.
وأشار إلى أن بعض الكيانات بدأت تتحرك بالفعل، ضاربًا مثالًا بصفقة استحواذ “تأمين الوفاء المغربية” على شركة “دلتا للتأمين”، في صفقة تُقدر قيمتها الإجمالية بنحو 5 مليارات جنيه، تشمل نية شطب أسهم الشركة المستهدفة من البورصة المصرية، وشراء جميع الأسهم غير المستجيبة لنفس السعر خلال 6 أشهر.
أضاف حسن، أن طرح الشركات في البورصة أو الدخول في تحالفات استراتيجية تمثل بدائل أخرى، لكنها لا تحظى بنفس السرعة والمرونة التي توفرها صفقات الاندماج، خاصة للشركات الصغيرة التي تسعى لتوسيع قدراتها التمويلية في وقت قصير.
ورغم الإطار التشريعي الجديد، لفت حسن إلى أن “الرقابة المالية” تتعامل بمرونة نسبية، إذ تمنح مهلاً إضافية عند وجود معوقات حقيقية، ما يعكس تفهمها لأوضاع السوق وحرصها على استقراره دون المساس بالكيانات العاملة فيه.
لم تعد عمليات الدمج والاستحواذ في سوق التأمين المصرية ترفًا استثماريًا، بل باتت أداة تنظيمية ومالية لتكيّف الشركات مع واقع جديد، يتطلب رؤوس أموال أكبر، وإدارة مخاطر أكثر احترافية، وشفافية أعلى في التعامل مع الجهات الرقابية.
وتدفع هذه التحولات نحو سوق أكثر عمقًا، وكيانات أقوى، ما يعزز من قدرة القطاع على التوسع ومواجهة المخاطر، خاصة في ظل بيئة اقتصادية متقلبة، تتطلب من شركات التأمين أن تكون مستعدة لمواجهة متغيرات حادة، سواء على مستوى الكوارث الطبيعية أو مخاطر السوق.
نمو مرتقب وكيانات أكبر
ويرى هيثم قباني، العضو المنتدب لشركة بيتا كابيتال للاستشارات المالية، أن القطاع على أعتاب مرحلة نمو كبيرة مدفوعا بالتطور التشريعي وزيادة رؤوس الأموال، مشيرًا إلى أن البيئة أصبحت أكثر جاذبية للمستثمرين.
أضاف أن التشريعات الأخيرة ستسهم في ظهور كيانات قوية من خلال اندماجات متوقعة، في مقابل تراجع دور الشركات الصغيرة التي لن تستطيع مجاراة متطلبات السوق، خاصة في ظل متغيرات الاقتصاد الكلي واشتداد المنافسة.
وتوقع قباني أن ترتفع معدلات الاستثمار المؤسسي في القطاع، بدعم من وضوح الرؤية التشريعية، وتطور آليات الحوكمة، الأمر الذي يعزز ثقة المستثمرين ويشجع دخول رؤوس أموال جديدة.
الرقمنة قد تسرع النمو.. ولكنها ليست كافية
وحول أثر الرقمنة، يرى قباني أن التحول الرقمي سيكون له دور محوري في توسيع نشاط التجزئة بالتأمين، إلا أنه لن يحدث طفرة بمفرده، إذ تظل الملاءة المالية وقدرة الشركات على تحمل المخاطر هي المحدد الرئيسي للنمو.
أضاف أن التحدي الأكبر يتمثل في الإجراءات البيروقراطية وتعقيد تراخيص التأسيس والقيد بالبورصة، ما يتطلب تدخلًا عاجلًا لتبسيط البيئة القانونية والإجرائية، وتمكين الشركات من التوسع ضمن إطار تنظيمي داعم.
أبرز الصفقات
لم يكن عام 2025 خاليًا من صفقات دمج لافتة، ففي ديسمبر الماضي تم دمج “جي أي جي مصر” مع “إيه أي جي إيجيبت” التابعتين لشركة الخليج للتأمين، وهي واحدة من أبرز الصفقات التي عكست التوجه الفعلي نحو إعادة هيكلة السوق.
كما أن عرض “تأمين الوفاء المغربية” على “دلتا للتأمين” يعكس اتجاها متزايدًا من المستثمرين الإقليميين للاستفادة من بيئة تشريعية مواتية في السوق المصرية، خاصة في ظل انخفاض تقييمات بعض الشركات مقارنة بالقيمة السوقية العادلة.
تشريعات جديدة.. واستقرار أكبر
اعتبر عاطف المحمودي، خبير التأمين ورئيس مجلس إدارة شركة المهندس للتأمين سابقًا، أن رفع الحد الأدنى لرؤوس الأموال إلى 500 مليون جنيه يُعد تحولاً جذريًا في تاريخ السوق، لأنه يعزز استقرار الشركات، ويرفع من درجة الثقة لدى العملاء والمستثمرين.
وأكد أن الملاءة المالية القوية تجعل الشركات أكثر قدرة على مواجهة المطالبات، وتمنحها قدرة تنافسية أعلى، موضحًا أن الشركات المؤتمنة على أموال الأفراد لا بد أن تمتلك قدرات مالية وتنظيمية متقدمة، حتى تتمكن من تقديم الخدمة بشكل يليق بحجم المخاطر.
أضاف المحمودي، أن أحد أهم عناصر نمو السوق يكمن في نشر الوعي التأميني، معتبرًا أن التشريعات رغم أهميتها لا تكفي بمفردها، ما لم يصاحبها جهود توعوية حقيقية، سواء من الشركات أو الاتحاد المصري للتأمين، لتوسيع قاعدة العملاء وتعزيز ثقافة التأمين.
