قبل 6 سنوات، أسس عمرو سعيد، مشروعه للاستزراع السمكي على مساحة 10 أفدنة، تضم 3 أحواض لتربية أسماك البوري والبلطي والقاروس والطوبار، بإنتاج سنوي يتراوح بين 17 و20 طنًا.
الآن، يشكو صاحب مزرعة «الصياد للأسماك»، تراجع مجاله بسبب ارتفاع إيجارات المزارع التي وصلت إلى 18 ألف جنيه سنويًا، إضافة إلى تزايد سعر الأعلاف لأكثر من 25 ألف جنيه للطن وارتفاع أسعار الكهرباء والمحروقات مقارنة بالربح الناتج عن بيع منتجه.
أما باسم الشركسي، صاحب مزارع سمكية في كفر الشيخ والبحيرة، فلم يتصوّر يومًا أن تصبح المهنة التي ورثها عن والده وجده ساحة لاختبار الصبر والخبرة.
ارتفاع تكلفة تأسيس مزرعة جديدة
قال باسم الشركسي لـ”البورصة”، إن الأمر ليس بسيطًا، إذ تختلف تكلفة الإنشاء حسب مساحة المزرعة ونوع التربة، فالأراضي الرملية تحتاج إلى عزل خاص بالأغطية البلاستيكية لمنع تسرب المياه، بخلاف الأراضي الطينية.
تابع أن كل متر مكعب من الأرض يمكنه احتواء 100 سمكة، وخلال 5 أشهر فقط يمكن أن يصل الإنتاج من اللحم إلى نحو 250 كيلوجراما، حسب تقدير “الشركسي”، بينما يعاني تحديات كثيرة، أبرزها تقلبات الطقس من حرارة مرتفعة ونقص المياه وصعوبة الرؤية بالساعات الصباحية في فصل الشتاء.
على خلاف “سعيد” و”الشركسي”، قال أحمد السبع، مسئول بشركة المصريين لإنشاء الأحواض والمزارع السمكية، إن هناك إقبالًا متزايدًا على الاستثمار في مجال الاستزراع السمكي، خاصة في الفيوم ومحافظات الصعيد، إذ ارتفعت معدلات الطلب على إقامة المزارع.
وأضاف السبع لـ”البورصة”، أن تكلفة إنشاء مزرعة سمكية تختلف حسب المساحة والإمكانيات، إذ تبدأ من 50 ألف جنيه وتصل حتى 200 ألف، مبينًا أن المجال “فرصة جيدة” لمن يملك القدرة المالية ويرغب الدخول إلى قطاع يحقق عوائد استثمارية مستقرة، حسب وصفه.
ارتفاع تكلفة التشغيل.. عامل مؤثر
وتعليقًا على تصريحات السبع، قال المهندس أحمد الشراكي، خبير الاستزراع السمكي، إن القطاع يشهد ثباتًا دون نمو أو تراجع، وفق بيانات جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية.
وعلل ذلك بانخفاض أمان الاستثمار، إذ لا يحصل أصحاب المزارع السمكية على عقود إيجارات طويلة الأجل، فأمد التراخيص لا يمتد إلا لـ3 سنوات فقط، ويتم تجديدها وفق تقدير موظفي الجهاز، ما يعوق التطوير والاستثمار طويل المدى، إضافة إلى ارتفاع تكلفة التشغيل والظروف الاقتصادية الحالية، حسب ما صرح به لـ”البورصة”.
وأضاف الشراكي، أن تلك الأسباب أدت إلى عزوف المستثمرين عن التوسع في الإنتاج، سواء أفقيًا عبر زيادة المساحات أو رأسيًا من خلال تطوير البنية التحتية للمزارع.
اقرأ أيضا: “تنمية البحيرات”: تأهيل المزارع السمكية لدخول أوروبا خلال 6 أشهر
وحسب بيانات وزارة الزراعة الرسمية، فإن إنتاج المزارع السمكية يأتي من خلال 64 ألف مزرعة تتجاوز مساحاتها مجتمعة 320 ألف فدان.
وأشار الشراكي، إلى أن أوضاع إنتاج الأسماك بمصر في بداياته خلال عقد التسعينيات كانت أفضل ربحًا وأقل تعقيدًا في الإجراءات والتكاليف، بينما بدء مشروع جديد في الوقت الحالي يواجه تحديًا كبيرًا، إذ تبلغ تكلفة تشغيل 10 أفدنة لإنتاج نحو 50 طنًا من الأسماك قرابة 3 ملايين جنيه، بمتوسط 60 ألف جنيه للطن الواحد.
مليونى طن إجمالى الإنتاج السمكى
وقال الدكتور صلاح مصيلحي، رئيس جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية، إن إجمالي الإنتاج السمكي الكلي بمصر، بنوعيه الطبيعي والاستزراع، بلغ مليوني طن سنويًا، بينما تبلغ نسبة الاستزراع السمكي 80% بإجمالي 1,6 مليون طن والمصايد الطبيعية 426 ألف طن.
وأضاف أن الدولة تستهدف إنتاج 2,5 مليون طن بحلول 2030، عبر طرح مشروعات استثمارية جديدة، أبرزها “الأقفاص السمكية البحرية” إضافة إلى تطوير المزارع والمفرّخات البحرية، مشيرًا إلى أن تلك المشروعات ذات دور كبير لتعزيز الإنتاج خلال السنوات المقبلة بما يحقق عوائد اقتصادية، حسب تصريحاته لـ”البورصة”.
وحسب رئيس جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية، فإن صادرات مصر من الأسماك تتراوح بين 29 و38 ألف طن، بينما تتراوح الواردات بين 275 و375 ألف طن سنويًا، مصرّحًا بأن العام الحالي شهد إعادة تصدير الأسماك للاتحاد الأوروبي، مع اعتماد بعض المزارع السمكية للتصدير إلى أوروبا خلال العام المقبل.
وحسب البيانات الرسمية، أعادت المفوضية الأوروبية فتح باب تصدير الأسماك البحرية لدول الاتحاد الأوروبي، بعد زيارة الخبراء خلال ديسمبر الماضي لتقييم الجودة، وتم تصدير أولى الشحنات خلال فبراير الماضي، بعد توقف دام 3 سنوات.
وذكر مصيلحي، أن القطاع الخاص يقتنص 90% من استثمارات الثروة السمكية بمصر بنوعيها الاستزراع والمصايد الطبيعية، بينما يستحوذ القطاع الحكومي على 10%، تشمل مزارع الجهاز والشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية وهيئة قناة السويس والمعاهد البحثية وبعض الوزارات منها الزراعة، والري، والأوقاف، حسب تصريحاته، مشيرًا إلى تقديم الدولة تسهيلات ودعمها الاستثمار في المجال.
هل تدعم الدولة الاستزراع السمكي؟
وحسب الدكتور هاني المنشاوي، رئيس شعبة الأسماك بغرفة الصناعات الغذائية، تواصل الدولة دعمها للقطاع، عبر توفير أراضٍ ومساحات لإقامة المزارع السمكية والسماح بإنشائها في الصحراء معتمدة على المياه الجوفية، إضافة إلى التوسع في إنشاء أحواض أسماك في البحار.
ووفق مصيلحي، يطوّر جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية قطاع الاستزراع عبر تحديث تقنيات الإنتاج والتعبئة والتصنيع والتسويق وتحسين سلالات “البلطي” و”الجمبري” وراثيًا، والتعاون الدولي مع المعامل العالمية ذات الخبرة، إضافة إلى تنظيم دورات تدريبية فنية بالمنظمات الدولية، إضافة إلى توفير دراسات جدوى لمشروعات الشباب المستثمرين.
وأفصح عن وجود خطط مستقبلية للتوسع في المزارع السمكية، عبر رفع إنتاجية الفدان وتحسين جودة الأسماك ونشر تقنيات الاستزراع بالصحراء والتكامل الزراعي مع تطبيق معايير الصحة والجودة وحصر المواقع الصالحة للاستزراع في البحرين المتوسط والأحمر وتسهيل متطلبات إنشاء الأقفاص البحرية والمفرّخات بمناطق الإنتاج الرئيسية.
اقرأ أيضا: “تنمية البحيرات”: إنتاج مصر من الأسماك يقفز إلى 2.5 مليون طن بحلول 2030
ووصف بكري أبوالحسن، شيخ ونقيب صيادي السويس، توسع الدولة في الاستزراع السمكي، خاصة بمنطقة شرق القناة بـ”أشد المشروعات نجاحًا”، مشيرًا إلى أن استغلال أحواض الترسيب الناتجة عن حفر القناة أسهم في زيادة الإنتاج وتقليل الضغط على المصايد الطبيعية.
وأضاف أن المزارع السمكية ليست منافسًا للصيادين التقليديين، بل مكملًا لهم، إذ توفر احتياجات السوق المحلي وتقلل الاستيراد، ما يوفر العملة الصعبة، حسب ما صرّح به لـ”البورصة”.
لماذا ترتفع أسعار أسماك المائدة؟
وحول ارتفاع أسعار أسماك المائدة، قال المنشاوي، لـ”البورصة”، إن اختلاف أسعارها من منطقة لأخرى لا يرتبط بحجم الإنتاج، وإنما بعوامل تجارية، مثل سوء التوزيع ودور الوسطاء والسماسرة.
وبانعكاس أسعار الأعلاف على أسعار الأسماك، قال خالد درة، مسئول المبيعات بشركة “أللر أكوا إيجيبت” لأعلاف الأسماك، إن صناعة أعلاف الأسماك تواجه مشكلة استيراد الخامات، لافتًا إلى أن قيود توافر الدولار خلال الفترة الماضية حدّت من قدرة الشركات على توفير المواد الخام بشكل كافٍ، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الأعلاف وظهور تقلبات سعرية متكررة، إذ تم تغيير القوائم السعرية قرابة 14 مرة خلال عام واحد 2024.
وأشار إلى اختلاف الوضع خلال العام الحالي، إذ شهد السوق استقرارا سعريا منذ يناير وحتى الآن، بفضل توافر المواد الخام واستقرار سعر الصرف، حسبما قال لـ”البورصة”.
ودعا محمد عبدالحليم، نائب رئيس شعبة الأسماك بغرفة الصناعات الغذائية، إلى ضرورة إنشاء جهاز رقابي يتولى متابعة وضبط أسعار الأعلاف السمكية باعتبارها العنصر الأكثر تأثيرًا على تكلفة الإنتاج، مشيرًا إلى أن دول الخليج تمثل سوقا لأسماك المزارع المصرية بمختلف أنواعها، مثل “البلطي” و”البوري”.
وأوضح لـ”البورصة”، أن مزارعي الأسماك بات لديهم وعي بمنظومة العرض والطلب في السوق، ما يساعدهم على التحكم في الأسعار وتوجيه الإنتاج بما يناسب حاجة السوق المحلية والخارجية.
وقال عبدالحليم، فإن منطقة المطرية بمحافظة الدقهلية تعد الأوفر عددًا في المزارع السمكية بعد كفر الشيخ، والتي تشتهر بأسلوب تربية مميز، إذ يتم اقتطاع مساحات من البحر لتوفير بيئة طبيعية للأسماك، تجعلها أقرب لحياتها الأصلية بالبحر من حيث المرعى والمذاق.
وفي 10 مارس الماضي، صدرت دراسة عن وزارة الزراعة الأمريكية حصلت “البورصة” على نسخة منها، أوضحت أن إنتاج “البلطي” يتركز في محافظات كفر الشيخ وبورسعيد والشرقية والبحيرة، بينما تضم كفر الشيخ وحدها 32,303 أفدنة من المزارع السمكية تنتج 40% من إجمالي إنتاج الأسماك المستزرعة بمصر.
وعن أنواع الاستزراع بمصر، فإنه يشمل أنواعًا من الأسماك والقشريات، بعضها محلي وآخر مُدخل، حسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة “فاو”، بعنوان “مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية”، حصلت “البورصة” على نسخة منه.
وتضم الأنواع المحلية، أسماك البلطي النيلي والأزرق والسلور الشمال أفريقي والبوري الرمادي مسطح الرأس ورفيع الشفاه والأزرق والقاروص الأوروبي والذهبي الرأس والدنيس والهزيل والجمبري (روبيان).
أما الأنواع المُدخلة فتشمل الكارب (الشبوط) الشائع والعشبي والفضي وكبير الرأس والأسود وجمبري (روبيان) المياه العذبة النهري العملاق، حسب التقرير .
ممارسات المزارعين تحتاج وعيًا
وكشف خالد درة، أن الأعلاف ذات نسبة البروتين 30% تعد الأكثر طلبًا بالسوق، وتعتمد تركيبتها على مزيج من فول الصويا وبعض الخامات الأخرى إضافة إلى مكملات دوائية، مشيرًا إلى أن الصناعة تعتمد على خامات يتم استيراد 50% منها.
وتابع أن بعض المزارعين يجهدون الأسماك عبر زيادة الكثافة والبروتين داخل الأحواض بما يتعارض وخواص المياه الفيزيائية- لتعويض ارتفاع القيمة الإيجارية للفدان، الأمر الذي ينعكس سلبًا على صحة الأسماك ومدى ربحية المشروع.
وتعليقًا على ممارسات بعض المزارعين، قال الدكتور هاني المنشاوي، إن عدم وجود جمعية أو نقابة لمزارعي الأسماك يمثل تحديا رئيسا للقطاع، لاسيما مع الحاجة لوجود تنظيم قادر على التدريب والتوعية، لضمان الالتزام بمواصفات الاتحاد الأوروبي.
وأشار إلى وجود محاولات لتطبيق بعض الإجراءات في المزارع، مثل “النظم الدورية لتحليل عينات المياه كل ساعة”، و”الإشراف البيطري على صحة الأسماك”، مع متابعة دقيقة لدرجات حرارة المياه، لاسيما وأن زريعة البلطي يتعرض للنفوق مع ارتفاع درجات الحرارة، حسب تصريحاته لـ”البورصة”.
وذكر أن مصر تملك خبرة في إنشاء المزارع السمكية بالخارج، مثل السعودية، بجانب تفوقها في مكافحة أمراض الأسماك، إذ تحتل المركز الرابع عالميًا والأول عربيًا وأفريقيًا في نشاط الاستزراع السمكي، موضحًا أن الشركة الوطنية للثروة السمكية أنشأت مشروعات مثل “غليون” و”الفيروز” وغيرها.. و35% من إنتاج الاستزراع بمصر يتركز في كفر الشيخ.
ووفقًا لتقرير حالة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية في العالم لعام 2024 الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)، فإن مصر تتصدر أفريقيا في إنتاج تربية الأحياء المائية، حيث تُمثل 67٪ من إجمالي إنتاج تربية الأحياء المائية في القارة، إلا أن تلك النسبة لا تُمثل سوى 1.7٪ من إنتاج تربية الأحياء المائية العالمي، الذي تتصدره الصين والهند وإندونيسيا وفيتنام.
مستقبل القطاع.. بين الدولة والمزارعين
وتوقعت منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، زيادة إنتاج مصر من الاستزراع السمكي بنحو 10% بحلول 2032، بينما يؤدي نمو الإنتاج إلى زيادة الطلب على 397,600 طن من أعلاف الأسماك، حسب تقريرها الصادر منتصف العام الماضي.
وعن مستقبل القطاع، لفت المهندس أحمد الشراكي إلى أنه يعتمد على إصلاحات حكومية جذرية، تشمل توفير أمان استثماري بعقود طويلة الأمد وتخفيض الضرائب والإيجارات وضبط أسعار المحروقات باعتبارها أساس تشغيل المعدات والنقل.
وثمّن الدكتور صلاح مصيلحي، إقامة مراكز محورية تجارية تسهّل انسياب السلع إلى أكبر عدد من الدول وإقامة نقاط اتصال اقتصادية بالتعاون مع القطاع الخاص بالدول ذات المصالح المشتركة، لتكون بمثابة بنك معلومات للمصدرين لتزويدهم بالدراسات عن الأسواق العالمية وتوفير قاعدة بيانات عن الإنتاج، إضافة إلى أهمية إعداد خريطة للاستثمار بالمحافظات.
ويعود باسم الشركسي، ليحكي أن الحياة تدب في مزرعته منذ بداية مارس من كل عام مستمرة حتى سبتمبر، بينما تتوقف التغذية بسبب برودة الجو مع حلول نوفمبر، إذ تسكن الحركة قليلًا انتظارًا لعودة الدفء، ما يمثل عبئًا اقتصاديًا على كاهله فوق ما ينوء به مزارعو القطاع.
أما عمرو سعيد، فإنه يطالب بخطوات “عملية” لإنقاذ نشاط الاستزراع السمكي بمصر، كخفض الإيجارات وضبط أسعار الأعلاف التي كان الطن منها لا يتجاوز 8 آلاف جنيه قبل 4 سنوات، فضلًا عن فتح باب التصدير لدعم القطاع.
