توقع مركز الحماية من الكوارث (Centre for Disaster Protection) أن تتراوح الخسائر الاقتصادية العالمية السنوية الناجمة عن تغير المناخ والكوارث الطبيعية بين 7 تريليونات دولار و38 تريليون دولار بحلول 2050.
“ما لا يمكن تأمينه لا يمكن استثماره”
مايا موتلي، رئيسة وزراء بربادوس، قمة منتدى تطوير التأمين 2024، لندن، المملكة المتحدة
في التقرير الآتي، تستعرض “البورصة” دور التأمين في تعزيز التنمية المستدامة للحد من مخاطر الكوارث الطبيعية التي تواجه الاستثمارات العامة والخاصة، عبر ضمان إغاثة موثوقة بعد وقوع الحوادث، وتمكين السكان المتضررين من إعادة البناء على نحو أفضل، وتوفير التعويضات للمتضررين، ووضع إستراتيجيات للوقاية.
يحاول التقرير الإجابة عن سؤال: هل تنقل آليات التأمين مخاطر الكوارث الطبيعية بعيدًا عن الميزانيات العامة؟
صدمة!
في فجر الجمعة الموافق 3 أكتوبر من العام الجاري، لم يمنح النيل أهالي قرية دلهمو فرصة للمّ شملهم قبل أن تغمرهم المياه من كل جانب غير عابئة بالحقول أو المنازل، لتجعل شوارعهم كبحيرة موحلة. يقول محمد عبد الحق لـ”البورصة”، إن بيته الريفي الصغير المبني بالطوب اللّبِن والخشب أصبح قطعة جماد رخوة بما فيه من منقولات بسيطة، بعدما غمرته المياه كغيره.
أسرع الرجل الستيني إلى أرضه الممتدة على حافة النهر، ليجد المياه قد سبقت خطواته، وغمرت محصول الموسم في ساعات قليلة. لم يملك سوى الوقوف عاجزًا أمام المشهد، فليس ثمة جهة تعوضه عن الخسارة.
القرية التابعة لمركز أشمون بالمنوفية من أراضي طرح النهر، وهي أراضٍ مطلة على النيل بارتفاع 50 سم تقريبًا، بينما تقل عن ارتفاع الأراضي المحيطة بما يقرب من 4 أمتار.
وحسب عبد الحق، فقد دمر ارتفاع منسوب مياه النيل ما لا يقل عن ألف فدان بتلك القرية فقط، إضافة إلى العديد من القوارب المستخدمة للصيد والتنقل، فضلًا عن عشرات البيوت، إضافة إلى خسائر المواشي.

حسب “سويس ري“، بلغت خسائر عام 2023 الاقتصادية الناجمة عن الكوارث الطبيعية 290 مليار دولار عالميًا، بينما كان نحو 62% منها غير مؤمن عليه، بينما تم تأمين نحو 50% من الخسائر الاقتصادية للبلدان ذات الدخل المرتفع، في حين لم يتم تأمين سوى 0.5% من الخسائر الاقتصادية بقارة أفريقيا، بينما بلغت خسائر 2024 نحو 320 مليار دولار إثر الكوارث الطبيعية، منها 140 مليار دولار مؤمّن عليها، وفق بيانات “ميونخ ري“.
وقد اتسعت الفجوة التأمينية العالمية مع مشكلات تغير المناخ والكوارث الطبيعية. منذ 2017 حتى 2025، بلغ متوسط الخسائر السنوية المؤمن عليها من الكوارث الطبيعية، مثل الفيضانات والأعاصير وحرائق الغابات والجفاف، أكثر من 110 مليارات دولار، ما يمثل أكثر من ضعف متوسط السنوات الـ5 السابقة الذي بلغ 52 مليار دولار، حسب بيانات “سويس ري“.
وحسب بيانات منظمة Insure Our Future، سحبت بعض شركات التأمين وإعادة التأمين تغطيتها من المناطق المتأثرة بتغير المناخ والكوارث الطبيعية بالبلدان المعرضة للخطر، ما تسبب في ارتفاع أقساط التأمين بها.
بينما توقعت “باين آند كومباني“، تضاعف الخسائر العالمية غير المؤمن عليها بحلول 2030، إلى 560 مليار دولار، وفقًا لبعض التقديرات.
وفي غياب التغطيات التأمينية، تترك الأخطار الطبيعية البلدان الضعيفة منهكة اقتصاديًا، بأموال غير كافية لتوفير الإغاثة الطارئة للضحايا والتعافي، وقد تؤدي تكرار تلك الظواهر المتطرفة إلى نقطة تحول اجتماعية/اقتصادية لا تستطيع بعدها تلك الدول تحمل تكلفة إعادة البناء بعد الكوارث.
ومع تزايد هشاشة البلاد النامية بعد الكوارث الطبيعية، ربما وقعت تحت رحمة تخفيض التصنيف الائتماني، ما يقيد قدرتها على الصمود أمام صدمات المناخ، ويدفع الحكومات إلى إلغاء الدعم والتخلي عن الأصول المنتجة، ويزيد من تقويض استقرارها المالي وقابليتها للتأمين مستقبلًا.

“البورصة” تواصلت عبر البريد الإلكتروني مع لوسيا بيفير، محللة بيانات الكوارث بشركة سويس ري العالمية لإعادة التأمين، وقالت إن الكوارث الطبيعية في تزايد عالميًا، مشيرة إلى أن أكثر من نصف الخسائر ما زال غير مؤمَّن عليها، إذ لم تُغطَّ سوى 43% من الخسائر الاقتصادية البالغة 318 مليار دولار بنهاية 2024، ما كشف اتساع فجوة الحماية وضعف قدرة الاقتصادات على التعافي.
وأضافت لـ”البورصة” أن شركات إعادة التأمين تسعى إلى سد تلك الفجوة، عبر نمذجة المخاطر وتقديم حلول ميسورة لتعزيز مرونة المجتمعات أمام التغير المناخي والكوارث المتصاعدة، مشيرة إلى أن تلك الفجوة تبرز الحاجة الملحّة إلى تعزيز الوعي بالمخاطر وتوسيع نطاق التغطية التأمينية، خاصة بالمناطق الأكثر عرضة للكوارث، لضمان تعافٍ أسرع واستدامة اقتصادية أقوى.
سد الفجوة.. والتنمية المستدامة
يبقى سد فجوة التأمين ضد الكوارث الطبيعية وتأمين الفئات الضعيفة أمرًا ضروريًا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، فقد حققت البلدان ذات المستويات العالية من انتشار التأمين تقدمًا في أهداف التنمية المستدامة، وفق “البنك الدولي“.
وحسب تقرير لـ”أليانز” العالمية 2025، فإن كل زيادة بنسبة 1% في انتشار تأمين الممتلكات والحوادث (P&C) بالدول، تعني اقترابها بنسبة 5.8% من تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
كما أشارت دراسة “Insurance Development and Economic Growth” إلى ارتباط انتشار التأمين ونمو الناتج المحلي الإجمالي، مشيرة إلى أن زيادة بنسبة 1% في إجمالي انتشار التأمين أدت إلى زيادة بنسبة 4.8% في النمو الاقتصادي سنويًا.
هل يدعم التأمين التنمية المستدامة؟
على ضفة النيل بقناطر الخمسين عين بقرية دهتورة بمركز زفتى التابع لمحافظة الغربية، يراقب مهندس الري علي سلام، تدفق المياه عبر أبواب القناطر. يقول لـ”البورصة” إن سير المياه يبدو طبيعيًا بارتفاع مقبول، ولكنه يشير إلى أن قرى كاملة في عِداد خطر “طرح النهر”، مثل “سندبسط” التي تعد شبه جزيرة نيلية بفرع دمياط بين زفتى وميت غمر.
يضيف سلام أن عشرات المزارعين في تلك المناطق يعيشون في خوف يومي من تكرار سيناريو ما حدث بقرية محافظة المنوفية التي غرق بها أكثر من ألف فدان فضلًا عن البيوت والمواشي، خاصة مع غياب أي نظم إنذار مبكر أو وسائل حماية حقيقية.
حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، يمكّن الفهم الجيد لطبيعة المخاطر الطبيعية من تحديد تكلفتها المالية، ومن ثم، تصميم تدابير للحد منها تتناسب وشدتها ومرات تكرارها المتوقعة، ثم معالجتها عبر تصميم إستراتيجيات تمويل متكاملة تعمل فيها آليات الحماية المالية جنبًا إلى جنب مع التدابير الاحترازية منها.
ويمكن للحكومات وضع أدوات تمويل للمخاطر المختلفة، لتطوير إستراتيجية لتمويل مخاطر الكوارث، مثل صناديق الطوارئ ومخصصات الميزانية المحددة مسبقًا لتمويل خسائر الكوارث وخطوط الائتمان الطارئة المتفاوض عليها مسبقًا التي توفر للحكومات وصولًا فوريًا إلى الأموال من خط ائتمان بعد وقوع الكارثة وأدوات تحويل المخاطر (بما في ذلك التأمين أو إعادة التأمين أو أدوات سوق رأس المال مثل سندات الكوارث.

وعادةً ما يكون التمويل اللاحق (Ex-post) غير مناسب لتوقيت الكوارث الطبيعية، ولا يمكن التنبؤ به، وغير كافٍ، ويحمل عواقب إنسانية واقتصادية، حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
وحسب تقرير لـ”الأمم المتحدة“، ارتفعت متطلبات التمويل لخطط الاستجابة الإنسانية التي تنسقها الأمم المتحدة بحوالي 30 ضعفًا، من 2 مليار دولار في عام 2000 إلى 57 مليار دولار بنهاية 2023، بينما لم تتلقَ “الأمم المتحدة” مؤخرًا سوى 43% فقط من الأموال التي طلبتها لمساعدة المحتاجين، وهو أكبر عجز لها على الإطلاق.
ومن ثم، تعد ترتيبات التمويل المُسبق (Ex-ante) للكوارث الطبيعية ضرورية لتعزيز تحمل الفئات الضعيفة الصدمات، لتقليل تأثيرات وتكاليف الأزمات. ويمكن للتأمين توفير مصدر تمويل موثوق، لسد فجوة إعادة الإعمار وإعادة البناء بشكل أفضل (build back better).
التأمين والإصلاح
ما بين يونيو 2023 وأغسطس 2024، عانى أهالي مدينة بلانتايري الجفاف بسبب ظاهرة النينيو المناخية الطبيعية، بينما أعلنت البلاد حالة الطوارئ في مارس 2024، بوجود أزمة غذائية في 23 مقاطعة من مقاطعاتها الـ28.
المحامية الحقوقية المالاوية مادالو باندا الناشطة بجمعية النساء في وسائل الإعلام، تحكي لـ”البورصة” أن المحاصيل في جميع أنحاء المقاطعة تضررت إثر عدم هطول الأمطار غير الكافي بين نوفمبر 2023 وأبريل 2024، بينما اعتماد عشرات الملايين من السكان على الزراعة الصغيرة لإطعام أنفسهم وكسب عيشهم.
تواصلت “البورصة” مع كامبالامي، وقالت إن الحكومة المالاوية حصلت على نحو 11.2 مليون دولار كتعويضات تأمينية عن الجفاف الشديد المرتبط بظاهرة النينيو، في 20 أغسطس 2024، إذ أعلن البنك الأفريقي للتنمية أن التعويضات الممنوحة لمالاوي إنما هي وثيقة تأمين ضد الجفاف من خلال البنك والمجموعة الأفريقية لاستيعاب المخاطر، لدعم المساعدات الغذائية لنحو 235 ألف أسرة بالمناطق الأكثر تضررًا، مع تقديم إغاثة مباشرة لأكثر من 100 ألف أسرة، وقالت إن الرئيس المالاوي لازاروس تشاكويرا صرح قائلًا: “تلك الأموال شريان حياة لسكاننا الأكثر ضعفًا”.
حسب بيانات البنك الدولي، ارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون في سهول الفيضانات بنسبة 114% وفي السواحل المعرضة للأعاصير بنسبة 192% خلال الـ40 عامًا الممتدة من 1970 إلى 2010، ومن المتوقع أن يستمر في الارتفاع في السنوات القادمة.
وفي نوفمبر 2024، أصدرت دول مجموعة العشرين (G20) أول إعلان وزاري بشأن الحد من مخاطر الكوارث الطبيعية، داعية إلى وضع إستراتيجيات مالية وطنية لمعالجة تلك الأوضاع.
وسلط التقرير العالمي لـ2024 عن حلول التآزر للمناخ وأهداف التنمية المستدامة، الضوء على الحاجة إلى تطوير خطط استثمار وطنية متكاملة توائم التمويل مع الأولويات المحلية وتزيد من تآزر القطاعات والجهات الفاعلة، بينما يجب على الحكومات تضمين إستراتيجيات تمويل مخاطر الكوارث الطبيعية ضمن خططها الاستثمارية الوطنية المتكاملة وكذلك ضمن إستراتيجيات التنمية الوطنية والمساهمات المحددة وطنيًا (NDCs) وخطط التكيف الوطنية (NAPs) والإستراتيجيات القطاعية.
وحسب “الأمم المتحدة“، فإن تبني أدوات تمويل الكوارث المسبقة (ex-ante) يمكّن الدول من الاستفادة من الأدوات السياسية والمالية، لتشجيع إقبال أوسع على حلول التأمين من أجل تقليل فجوة الحماية على المستوى المجتمعي. وكذلك فإن التدخلات التنظيمية (Regulatory interventions) ترسّخ الالتزام بالاستثمار في الوقاية وحلول التأمين في الصكوك القانونية، مثل قانون البناء، أو تنظيم المياه، أو تقسيم الأراضي، ويمكنها أيضًا أن تتضمن عنصرًا إلزاميًا، يتطلب بموجب القانون إلزامية الحصول على التأمين.
منذ عام 2005، ألزمت الهند شركات التأمين بـالاكتتاب في جزء من أعمالها في القطاعات الاجتماعية والريفية الضعيفة، وهي سياسة بنت تدريجيًا البنية التحتية اللازمة لتعميق انتشار سوق التأمين، وبمرور الوقت، ساهم ذلك في إنشاء سوق تأمين جديدة للسكان المحرومين من الخدمات.
ولا بد من نشر أدوات مالية لتحفيز الإقبال على التأمين الخاص ضد مخاطر الكوارث الطبيعية، مثل دعم الحكومات الأدوات الميسرة لتضييق فجوة الحماية والحفاظ على توافر وثائق التأمين وإمكانية الوصول إليها وتحمل تكلفتها. ويجب تصميم إستراتيجيات الإعانة لتسهيل إلغائها التدريجي كليًا أو جزئيًا بمجرد التغلب على إخفاقات السوق، حسب “InsuResilience Global Partnership“.
شركات إعادة التأمين وإدارة المخاطر
“البورصة” تواصلت مع بن ماهاكا وفومولا مادوما من زيمبابوي، الصحفيَين بوكالة “أفريكان ميديا إيجنسي”، وقالا إن حكومة البلاد حينما استشعرت خطورة موجات الجفاف بالدول المجاورة، اشترت وثيقة تأمين معياري بنحو 2.5 مليون دولار بالشراكة مع المجموعة الأفريقية لإدارة المخاطر (ARC)، بهدف حماية أكثر من 800 ألف شخص من مخاطر الجفاف خلال الموسم الزراعي 2021/2022، وكررت تلك الخطة فيما بعد لحماية المزارعين.
إبراهيما شيخ ديونغ، الأمين العام المساعد للأمم المتحدة والمتحدث باسم المجموعة الأفريقية لإدارة المخاطر، قال تعليقًا على الحدث، وفق الزميليَن: “لا يمكن تخفيف الآثار البشرية للكوارث الطبيعية إلا عبر شراكات ذكية تُسخّر موارد الجهات الفاعلة المتعددة لإيجاد حلول شاملة. يظل التأمين البارامتري أحد أفضل أدوات نقل المخاطر، لأنه يضمن التعبئة السريعة لجهود الإغاثة عند وقوع كارثة. نحن متفائلون جدًا بتبنّي بقية القارة ثقافة التأهب والتحرك المبكر، بينما نسعى أن تقدر أفريقيا على الصمود في وجه تغير المناخ”.
وتابع أن التأمين المعياري أو البارامتري، يعني التصرف قبل وقوع الأزمة، وفقًا لمحفزات علمية متفق عليها مسبقًا، استنادًا إلى بيانات مثل هطول الأمطار، خلافًا للنموذج التقليدي، الذي لا يتلقى فيه العملاء إلا بعد وقوع الأزمة، ويُمكّن ذلك النوع من التأمين الحكومات وشركائها من التخطيط والاستجابة قبل الكوارث، ما يُسهم في إنقاذ الأرواح وسبل العيش.
حسب مجلة ناتشر، تؤدي شركات إعادة التأمين دورًا في توفير طبقة إضافية لاستيعاب الخسائر وتنويع مخاطر الكوارث دوليًا، لأنها “تأمين لشركات التأمين”، ففي حالة تغطيات مخاطر الكوارث الطبيعية، يمكن لشركات التأمين شراء حماية إعادة التأمين ضد الخسائر التي تتجاوز مستوى معينًا، ومن ثم، فإن إعادة التأمين أمر بالغ الأهمية لتأمين مخاطر المناخ والكوارث الطبيعية.
ووفق الهيئة الأوروبية للتأمين والمعاشات المهنية (EIOPA)، بدأ سوق سندات الكوارث (Cat Bonds) في أعقاب إعصار أندرو (Hurricane Andrew) منتصف تسعينيات القرن الماضي، كأدوات دين مالية تُصدرها شركات التأمين أو الحكومات لنقل مخاطر الكوارث الطبيعية إلى المستثمرين بسعر فائدة مرتفع، بينما قد يخسر المستثمرون رأس مالهم في حالة وقوع كارثة محددة مسبقًا، ويُنصح بها بشكل خاص في ظل زيادة وتيرة الكوارث الطبيعية وتغير المناخ.
وما تزال أسواق سندات الكوارث غير متطورة في الاقتصادات الناشئة والنامية، بينما تنتشر في أوروبا واليابان والولايات المتحدة.
ففي الفلبين، وفر طرح برامج لتمويل مخاطر الكوارث الطبيعية، مثل برنامج التأمين البارامتري ضد مخاطر الكوارث (Parametric Catastrophe Risk Insurance Program)، البيانات المتعلقة بالكوارث، ومن ثم، تم تطوير نماذج كوارث أكثر تعقيدًا وتوضيح مسئوليات أصحاب المصلحة بعد وقوع الكارثة، حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

ووفق “InsuResilience Global Partnership“، يمكن للسلطات العامة التصرف مباشرة كـمُعيد تأمين (reinsurer) للمطالبات الكبيرة أو كـ”مُؤمِّن الملاذ الأخير” (insurer of last resort) للذين لم يعد بإمكانهم الحصول على تأمين من الشركات الخاصة.
وفي ظل سحب شركات التأمين تغطيتها من المناطق المتأثرة بتغير المناخ والكوارث الطبيعية، تدخلت الحكومات في جميع أنحاء العالم بشكل مباشر كـمُعيد تأمين للحفاظ على قابلية تأمين المجتمعات الضعيفة وتجنب الاضطراب الاقتصادي، مثل خطط FAIR في الولايات المتحدة وUK Flood Re في المملكة المتحدة وNatCat في فرنسا.
ويمكن أن توفر مجمّعات مخاطر الكوارث الإقليمية، مثل (African Risk Capacity – ARC) ومرفق التأمين ضد مخاطر الكوارث الكاريبية (CCRIF) ومبادرة تقييم وتمويل مخاطر الكوارث في المحيط الهادئ (PCRAFI)، حلًا لمواجهة الكوارث الطبيعية، لا سيما وأنها تستخدم محفزات بارامترية (parametric triggers) منذ عام 2007، إذ تُمكّن تلك المجمّعات البلدان الضعيفة من توزيع المخاطر والتفاوض على أسعار تأمين وإعادة تأمين جيدة.
وأظهر تحليل الهيئة الأوروبية للتأمين والمعاشات المهنية (EIOPA) لتجمع مخاطر الفيضانات ضمّ 12 دولة بالمنطقة الاقتصادية الأوروبية، أنه يخفّض أقساط التأمين لحاملي الوثائق بنحو 26%. كما أظهر تحليل مماثل من البنك الدولي لمبادرة (PCRAFI) خفضًا في الأقساط بأكثر من 40%.
إطار سنداي والاستثمار في التأمين
وقّعت 196 دولة عضو في الأمم المتحدة على إطار سنداي للحد من مخاطر الكوارث في مارس 2015، وهو ذات العام الذي شهد توقيع اتفاق باريس للمناخ واعتماد خطة التنمية المستدامة لعام 2030 وأهدافها السبعة عشر (SDGs)، بهدف منع نشوء مخاطر جديدة وتقليل المخاطر الحالية للكوارث الطبيعية، عبر تنفيذ تدابير اقتصادية وهيكلية وقانونية واجتماعية وصحية وثقافية وتعليمية وبيئية وتكنولوجية وسياسية ومؤسسية متكاملة وشاملة تمنع وتقلل التعرض للمخاطر ونقاط الضعف أمام الكوارث، وتزيد من التأهب للتعافي.
وقدّرت “سويس ري” حجم الاستثمار في الوقاية والحد من المخاطر بنحو 10 مرات من إعادة البناء، بينما قدّر بنك الاستثمار الأوروبي أن مقابل كل يورو مُستثمر في الوقاية من الكوارث الطبيعية، يتم توفير 5-7 يوروهات في تكاليف التعافي. ووفق غرفة التجارة الأمريكية، فإن كل دولار واحد مُستثمر في التأهب للكوارث يوفر 13 دولارًا في التأثير الاقتصادي والأضرار التي تلحق بالممتلكات وتكاليف التنظيف.
ويمكن لأدوات التأمين، إضافة إلى دورها في إعادة البناء بشكل أفضل (building back better) أعقاب الأزمات، أن تُمكّن البلدان من المضي قُدمًا بشكل أفضل (build forward better)، من خلال تحفيز الاستثمار في الوقاية والتكيف مع المناخ واستكمال السياسات العامة، كما أوصى برنامج التعاونيات التأمينية المتبادلة الدولية (ICMIF) للاستفادة من أدوات التأمين.
وعلى سبيل المثال، تخفّض خطة “صمود الإعصار” التابعة لشركة صنكورب (Suncorp) في كوينزلاند الشمالية، أقساط العملاء إلى 20% لجعل منازلهم أكثر صمودًا أمام الأعاصير، كما تقدم “صنكورب” قروضًا بدون رسوم وبفائدة منخفضة مصممة لمساعدة عملائها على تمويل تحسينات منازلهم لزيادة صمودها ضد أضرار الأعاصير.
“البورصة” تواصلت مع ألكسندر راجبهانداري، الصحفي بجريدة إنشورنس جورنال، وقال إن بعض الولايات الأمريكية تُلزم شركات التأمين بتقديم خصومات للأشخاص الذين يجعلون منازلهم أكثر تصديًا ضد المخاطر الطبيعية، مثل تركيب أسقف مقاومة للأعاصير أو الحرائق أو إجراء تغييرات أخرى لتقليل مخاطر الظواهر الجوية المتطرفة، انطلاقًا من فكرة أن شركات إعادة التأمين ستدفع مبالغ أقل عند حدوث الكوارث.
دمج حلول البيئة بالتأمين
أظهرت دراسة “The Global Flood Protection Benefits of Mangroves” أن أشجار المانغروف وحدها توفر فوائد للحماية من الفيضانات تتجاوز 65 مليار دولار سنويًا. ومن ثم، يمكن ربط آليات التأمين بتلك الحلول، ما يخلق حوافز للحفاظ على البيئة، مع تقليل الخسائر على المدى الطويل، للموازنة بين الحد من المخاطر والحماية المالية والتنمية المستدامة.
كما يتطلب دمج تدابير التكيف مع المناخ في التأمين تصميمات مبتكرة للمنتجات، إضافة إلى ضرورة التنسيق بين شركات التأمين والسلطات العامة. على سبيل المثال، يوفر برنامج “FORTIFIED” التابع لمعهد التأمين لسلامة الأعمال والمنازل (IBHS) وقاية من المخاطر المرتبطة بالمناخ والمتعلقة بمخاطر الرياح والبرد وحرائق الغابات.
تواصلت “البورصة” عبر البريد الإلكتروني مع توبياس جريم، كبير علماء المناخ بشركة ميونخ ري العالمية لإعادة التأمين، وقال إن حرائق الغابات المُسببة لأضرار جسيمة ازدادت منذ عام 2015 فصاعدًا، بينما وقع 43% من أصل 200 حريق غابات تسببت في أكبر قدر من الأضرار خلال السنوات الـ10 الأخيرة، مشيرًا إلى أن دول أوروبا والجزء الجنوبي من أمريكا الجنوبية وغرب الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وجنوب أستراليا الأكثر تضررًا.

مخاطر الكوارث والحماية الاجتماعية
حسب منظمة العمل الدولية (ILO)، لا يتمتع نحو 55% من سكان العالم بأي حماية اجتماعية نقدية، ويهدد الوضع بعض المناطق المعرضة لتغير المناخ، فعلى سبيل المثال، فإن 83% من سكان أفريقيا غير مشمولين بأي برنامج قانوني للحماية الاجتماعية.
ويمكن لخطط الحماية الاجتماعية زيادة حجم التأمين ضد الكوارث الطبيعية الذي يتلقاه المستفيدون بعد وقوع صدمات، لتغطية الدخل المفقود أو استبدال الأصول المفقودة بسبب الكارثة، أو يمكن لبرنامج الحماية الاجتماعية أن يضيف المزيد من الأشخاص إلى البرنامج من المناطق المتضررة، حسب مشروع مناهج الحماية الاجتماعية في مواجهة كوفيد19 (SPACE).
ومنذ التوقيع على إطار سنداي وخطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030 واتفاق باريس في عام 2015، أُطلقت العديد من المبادرات العالمية لسد فجوة الحماية المناخية والتأمينية، مثل الدرع العالمي (Global Shield)، وإنشاء مرافق تأمين مخصصة لمساعدة البلدان في تطوير حلول تأمينية للتنمية المستدامة بما في ذلك حلول التأمين ضد مخاطر المناخ التابعة لبرنامج الأغذية العالمي (WFP)، ومرفق التأمين وتمويل المخاطر التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) ومنتدى برنامج الأمم المتحدة للبيئة للانتقال التأميني إلى صافي الانبعاثات الصفري (FIT).
كما أدرجت بعض البلدان المشمولة ببرنامج القدرة الأفريقية على تحمل المخاطر (ARC) الحماية الاجتماعية كآلية لـ”الأموال الخارجة”، وفي منطقة البحر الكاريبي، يقدم برنامج الأغذية العالمي (WFP) مبالغ إضافية لوثيقة الأعاصير المدارية والأمطار الغزيرة من مرفق CCRIF SPC لزيادة عدد الأشخاص المشمولين بالوثائق التي تشتريها الحكومات، مع توجيه نسبة من المدفوعات عبر برامج الحماية الاجتماعية التي تقودها الحكومة بدعم من برنامج الأغذية العالمي.

وتدرس العديد من البلدان أيضًا تشريعات محددة لربط تمويل مخاطر الكوارث بأنظمة الحماية الاجتماعية. من المرجح أن تتبنى تشيلي سياسة رسمية للحماية الاجتماعية القادرة على التكيف، وقد طورت جمهورية الدومينيكان مؤشرًا للتعرض للمناخ (IVACC) مدمجًا في سجلها الاجتماعي.
وحسب “Journal Of The Econometric Society“، فإن استثمارًا يتراوح بين 15 إلى 25 مليار دولار قد يوفر تغطية لـ3 مليارات شخص، من خلال أدوات مثل التأمين الإلزامي أو الأدوات المالية مثل حزم التأمين التجاري أو صناديق الطوارئ المضمونة للمزارعين.
ما زال محمد عبد الحق متوجسًا من تكرر سيناريو غرق أرضه مرة أخرى بسبب ارتفاع مستوى مياه النيل، فضلًا عن أهل بلدته وجيرانه الذين ينتابهم ذات الشعور بالقلق على حياتهم وزراعتهم ومواشيهم. بينما على بُعد عشرات الأميال من “دلهمو” شمالًا ما زال علي سلام يراقب يوميًا ارتفاع المياه المارة عبر قناطر الخمسين عين بـ”دهتورة” في غيبة عن أي تقنيات حديثة قد تساعده في وظيفته أثناء غيبته.








