يشهد السوق المصري حراكًا متجددًا في توجهات المستثمرين الأجانب، خاصة في القطاع الصناعي، مدفوعًا بإشارات التعافي التدريجي التي بدأت تظهر على مؤشرات الاستثمار المباشر خلال الفترة الأخيرة.
يأتي ذلك وسط دعوات متزايدة من خبراء الاقتصاد والمستثمرين لاتباع سياسات مالية أكثر انضباطًا وترشيدًا للإنفاق الحكومي، باعتباره شرطًا رئيسيًا لاستعادة الثقة في الاقتصاد المحلي وتحقيق استقرار سعر الصرف.

قالت الدكتورة نرمين طاحون، الشريك المؤسس لمكتب طاحون للاستشارات القانونية، إن الوقت الحالى يمثل لحظة فارقة أمام الحكومة لإعادة صياغة أولوياتها المالية، خاصة بعد أن أثرت سياسات التوسع في الإنفاق الحكومي على موارد النقد الأجنبي، وأدت إلى تفاقم الضغط على العملة المحلية، وهو ما انعكس على قدرة الدولة في جذب الاستثمارات الأجنبية خلال العامين الماضيين.
وأوضحت أن ارتفاع معدلات الإنفاق الحكومي خلال السنوات الأخيرة، خاصة على المشروعات القومية الكبرى، جاء في وقت تعاني فيه البلاد من نقص حاد في السيولة الدولارية وارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة، مما ضاعف من تكلفة التمويل والاستيراد على حد سواء.

وترى الشريك المؤسس لمكتب طاحون للاستشارات القانونية، أن الحكومة مطالبة حاليًا بإتباع سياسة مالية أكثر تحفظًا تقوم على ترشيد النفقات وتأجيل بعض المشروعات غير الإنتاجية، أو تلك التي لا تحقق عائدًا سريعًا بالعملة الأجنبية.
وقالت: «من المهم أن تُطيل الحكومة أمد تنفيذ المشروعات القائمة بدلاً من إنجازها في فترات قصيرة تستدعي استيراد مواد خام ومعدات بكثافة من الخارج، بما يخلق ضغطًا على الاحتياطيات الدولارية ويؤثر على سعر الصرف».
وأضافت أن اتباع نهج تقشفي لا يعني التوقف عن التنمية، وإنما إعادة ترتيب الأولويات بما يضمن استمرار النمو دون المساس باستقرار النقد المحلي، مؤكدة أن ضبط الإنفاق العام يعيد الثقة في الاقتصاد المصري أمام المستثمرين المحليين والأجانب، الذين يتابعون عن كثب سياسات الحكومة في إدارة مواردها.
أشارت طاحون إلى أن مكتبها يقدم حاليًا خدمات استشارية قانونية لثلاثة مستثمرين أجانب في مجالات صناعية مختلفة، من بينها صناعة الأواني المنزلية، وجميعهم يسعون لتأسيس شركات جديدة في مصر خلال الفترة المقبلة، في مؤشر على عودة الاهتمام بالقطاع الصناعي كوجهة مفضلة للاستثمار المباشر.
وأضافت أن هناك قطاعات بدأت في استعادة زخمها تدريجيًا بعد فترة ركود استمرت قرابة عامين بسبب نقص السيولة الدولارية وارتفاع التضخم وتكاليف الاقتراض.
وأوضحت أن التحديات الأخيرة كانت عقبة أمام المستثمرين الراغبين في دخول السوق المصري، لا سيما في ظل تذبذب سعر الصرف ووجود سوق موازية، الأمر الذي جعل تقدير العائد الحقيقي للاستثمار أكثر صعوبة.
اقرأ أيضا: الشريك المؤسس: «طاحون للاستشارات» يعمل على صفقات دمج واستحواذ فى عدة قطاعات
وتابعت: «تحسن المؤشرات الاقتصادية خلال الربع الأول من العام المالي الحالي يُعد خطوة إيجابية، فصافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الداخل بلغ نحو 2.7 مليار دولار مقابل 2.3 مليار دولار في الفترة المقارنة، وهو ما يشير إلى بداية تعافٍ تدريجي».
وشددت طاحون على أن تعافي الاستثمار في مصر مرهون باستعادة الحكومة لثقة المستثمرين، والتي تأثرت بصورة ملحوظة خلال السنوات الماضية بسبب غياب الاستقرار في السياسات المالية والضريبية وتغير سعر الصرف.
وأوضحت أن المستثمر الأجنبي لا يبحث فقط عن الحوافز، بل عن بيئة مستقرة يمكنه من خلالها تقدير العائد على الاستثمار وتوقع سيناريو التخارج أو تحويل الأرباح للخارج دون قيود.
أضافت أن حالة عدم اليقين التي شهدها السوق المصري مؤخرًا جعلت بعض المستثمرين يترددون في ضخ رؤوس أموال جديدة، ما لم تتضح رؤية الحكومة بشأن سياسات الضرائب، وآليات التعامل مع سعر الصرف، وتوقيت تنفيذ برنامج الطروحات الحكومية.
وترى الشريك المؤسس لمكتب طاحون للاستشارات أن الحكومة بحاجة لتغيير خطابها الموجه للقطاع الخاص، والانتقال من مرحلة الوعود إلى مرحلة التطبيق الفعلي، بما يعزز من الحياد التنافسي ويفسح المجال أمام القطاع الخاص ليكون المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي.

وقالت: «استقرار المراكز القانونية للمستثمرين دون تعديلات متتالية يعد عاملًا جوهريًا في كسب ثقة القطاع الخاص، إذ إن تعدد التعديلات المفاجئة يفقد المستثمر رؤيته الزمنية ويعطل تنفيذ مشروعاته».
وأكدت أن تحقيق الحياد التنافسي يتطلب من الدولة تخارجًا تدريجيًا من بعض الأنشطة الاقتصادية التي يمكن للقطاع الخاص إدارتها بكفاءة أعلى، مشيرة إلى أن الدولة يجب أن تركز على دورها التنظيمي والرقابي بدلاً من التوسع في الملكية المباشرة للمشروعات.
أشارت طاحون إلى أن تباطؤ تنفيذ برنامج الطروحات الحكومية يؤثر سلبًا على ثقة المستثمرين في التوجه الاقتصادي للدولة، ويحد من فعالية وثيقة ملكية الدولة التي استهدفت تمكين القطاع الخاص وزيادة مساهمته في النشاط الاقتصادي.
وأضافت أن المستثمرين المحليين والأجانب يراقبون عن قرب مدى التزام الحكومة بتنفيذ الطروحات وفق الجداول الزمنية المعلنة، معتبرة أن أي تأجيلات متكررة ترسل إشارات سلبية للسوق حول قدرة الدولة على فتح المجال أمام المنافسة.
وأوضحت أن الطروحات ليست فقط وسيلة لجذب السيولة أو تمويل الموازنة، بل أداة لإعادة توزيع الأدوار بين الدولة والقطاع الخاص وتعزيز الثقة في مناخ الاستثمار المصري، مؤكدة أن المنافسة غير المتكافئة بين الدولة والمستثمرين تُعد من أبرز التحديات التي تعوق جذب رؤوس الأموال الأجنبية.
وفيما يتعلق بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، التي تعد من أهم المشروعات القومية المستهدفة لجذب الاستثمارات الصناعية، قالت طاحون إنها رغم ما تمتلكه من مقومات واعدة، إلا أنها لم تحقق بعد المستهدف منها بسبب استمرار بعض التحديات الإجرائية.
وأوضحت أن الشركات العاملة داخل المنطقة ما زالت تواجه بطئًا في الإجراءات وارتفاعًا في تكاليف تجهيز بعض الأراضي، بالإضافة إلى نقص الخدمات الأساسية كالمناطق السكنية للعاملين ومراكز الخدمات اللوجستية.
وتوفير هذه المتطلبات يمثل عنصرًا حاسمًا في جذب الشركات الصناعية الكبرى التي تضع في اعتبارها تكاليف التشغيل وتوافر العمالة المدربة وسهولة حركة المواد الخام والمنتجات النهائية.
وتطرقت طاحون إلى نشاط صفقات الدمج والاستحواذ، مشيرة إلى أن مكتبها يعمل على عدد من الصفقات في قطاعات الخدمات المالية والسياحة والطاقة خلال العام الحالي، لافتة إلى أن وتيرة التعافي في هذا النوع من الصفقات مازالت بطيئة بسبب التحديات الاقتصادية.
وأضافت أن العام الماضي شهد تنفيذ عدد من الصفقات الناجحة رغم الصعوبات التمويلية، إلى جانب قضايا تحكيم دولي مثل فيها المكتب مستثمرين أجانب في قطاع الطاقة.
وأشارت إلى أن الحكومة بحاجة إلى إنشاء وحدة مركزية لمتابعة تنفيذ العقود المبرمة داخل كل جهة حكومية، بما يضمن احترام التزامات الدولة تجاه المستثمرين ويحد من اللجوء للتحكيم الدولي الذي يضر بسمعة الاقتصاد.
أكدت طاحون أن وجود أكثر من نظام استثماري داخل الدولة – سواء من خلال المناطق الحرة أو الاقتصادية أو نظام الاستثمار الداخلي – يمنح المستثمرين مرونة في اختيار الأنسب لمشروعاتهم، وهو ما يمثل نقطة جذب مهمة لرؤوس الأموال الأجنبية.
وقالت: «هناك استفسارات متزايدة من مستثمرين أجانب بشأن تأسيس شركات عبر المناطق الحرة الخاصة، لما تمنحه من مزايا ضريبية وتنظيمية، لكنهم يحتاجون إلى وضوح أكبر في الإجراءات والضمانات القانونية».
كما أن توحيد آليات التعامل بين هذه الأنظمة ورفع كفاءة البنية المؤسسية سيزيد من القدرة التنافسية للسوق المصري أمام المراكز الاستثمارية الإقليمية مثل السعودية والإمارات والمغرب.
وأكدت الشريك المؤسس لمكتب طاحون للاستشارات القانونية، أن استعادة الثقة في الاقتصاد المصري لا ترتبط فقط بتقديم الحوافز أو تسهيلات التراخيص، بل تبدأ من الانضباط المالي وترشيد الإنفاق الحكومي وتحديد أولويات التنمية.
وأضافت: «حينما يرى المستثمر أن الدولة تدير مواردها بكفاءة وتحافظ على استقرار عملتها، سيكون مستعدًا لضخ أمواله دون تردد، أما إذا استمر التوسع في الإنفاق دون عائد إنتاجي واضح، فسيظل القلق هو السائد».
وترى أن المرحلة المقبلة يجب أن تشهد مراجعة شاملة لهيكل الإنفاق العام وربط المشروعات الكبرى بدراسات جدوى دقيقة، مع إعطاء أولوية للقطاعات المنتجة القادرة على خلق فرص عمل وزيادة الصادرات وتوليد موارد دولارية.
واختتمت: «الطريق نحو تعافٍ اقتصادي حقيقي يبدأ من ضبط الموازنة، لأن الثقة لا تُشترى بالحوافز، وإنما تُبنى بسياسات رشيدة ومسؤولة، وهذا ما ينتظره المستثمرون الآن من الحكومة المصرية».








