قد يكون قطاع التصنيع الأمريكي الآن في أضعف حالاته بعد عقود من التنازل للصين عن أنشطة التعدين والإنتاج الحيوية سعياً وراء خفض التكاليف وزيادة أرباح الشركات، وستكون هناك حاجة إلى دعم حكومي قوي لتضييق نطاق تأمين سلسلة توريد الصناعات التحويلية.
يعدّ تهديد الصين بكبح إمدادات المعادن النادرة، الضرورية لتصنيع منتجات من السيارات والطائرات إلى سماعات الرأس والمكانس الكهربائية، دليلاً على استغلال مكاسب السلم لفترة طويلة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينيات.
لقد أتى السعي الحثيث لتحقيق الكفاءة العالمية، الذي عززه انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، بنتائج عكسية، ومع وضوح الرؤية، يسهل إدراك اللعبة طويلة الأمد التي امتصت جزءاً كبيراً من حيوية قاعدة التصنيع الأمريكية.
بينما كانت الصين تستعد منهجياً لفرض وجودها حول العالم، اكتفت الولايات المتحدة باستيراد معدلات تضخم منخفضة والتمتع بفترة استثنائية من أسعار فائدة تداني الصفر.
لقد تطلّب الأمر جائحة لإيقاظ البلاد من غفلتها وإدراك خطر انهيار قطاع التصنيع.
سيتطلب تعافي الصناعة الأمريكية جهوداً متضافرة.
وقد أقرّ جيمي ديمون، رئيس “جيه بي مورغان تشيس” التنفيذي في مقال رأي بصحيفة “وول ستريت جورنال” الإثنين، أنه “لم يعد لدينا متسع من الوقت” وأعلن أن مصرفه أطلق مبادرة الأمن والمنعة لاستثمار 1.5 تريليون دولار على مدى عشر سنوات في قطاعات التعدين والطاقة والتصنيع الحيوية، بما يشمل المعدات العسكرية والأدوية.
أوضح مثال على هذا التهديد هو سلسلة توريد العناصر الأرضية النادرة. فهذه المعادن ليست نادرة حقاً، بل هي موزعة بشكل ضئيل في قشرة الأرض، ما يجعل استخراجها صعباً.
العالم منشغل عن التنين الصيني
كما أن عملية ترشيح أطنان من التربة لتركيز هذه المعادن وتنقيتها تتضمن مواد كيميائية غير صديقة للبيئة.
ويتطلب الأمر مزيداً من التصنيع لتحويل بعض هذه المعادن، مثل النيوديميوم، إلى مغناطيسات دائمة تُستخدم في كثير من المنتجات.
كان العالم في معظمه غير مبالٍ بينما سيطرت الصين تدريجياً على سلسلة توريد المعادن النادرة، وما كان هذا ليثير القلق لو لم تدعم الصين الهجوم الشرس للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، وتحالفت مع إيران.
ساعد الدعم الحكومي، وضعف الرقابة على العمالة والبيئة، الصين على خفض الأسعار، وإخراج المنتجين الأمريكيين من السوق.
قليلون هم من دافعوا عن التعدين والإنتاج المحليين آنذاك، لأنهم كانوا جزءاً من الاقتصاد القديم؛ تلك الوظائف الباهتة والخطيرة التي كانت تُعتبر قبل بضعة عقود غير مرغوبة في الاقتصاد الجديد.
لا يقتصر التهديد على التعدين. فحتى الآن، يدفع البعض نحو زوال النفط والغاز كمصدرين للطاقة سريعاً، لصالح مصادر الطاقة المتجددة التي تهيمن عليها الصين.
اتضح أن تقليص قطاعي التصنيع والتعدين أضرّ بعمال الطبقة المتوسطة، وقوّض الأمن القومي.
ربما نسي بعض الأمريكيين ذلك، لكن القادة الصينيين، ومنهم الرئيس شي جين بينج، يدركون جيداً أن الانتصار في الحرب العالمية الثانية جاء بفضل براعة التصنيع الأمريكية.
مساعٍ حثيثة لاستعادة السبق
لحسن الحظ، تُبذل جهودٌ في الولايات المتحدة لبناء سلسلة توريد المعادن الأرضية النادرة، من التعدين إلى المغناطيسات، وبالمعدل الحالي، قد يستغرق الأمر عامين يجب تسريع هذه الوتيرة، الأمر الذي يتطلب دعماً حكومياً إضافياً.
لقد أبرمت وزارة الدفاع صفقةً مهمةً مع شركة التعدين “إم بي ماتيريالز” لتوفير السيولة النقدية من خلال قرض وحصة في رأس المال.
الأهم من ذلك، أن الصفقة حددت حداً أدنى لسعر المواد لمنع الصين من استخدام السعر كسلاح في السوق.
ليس هذا هو النهج الذي ينبغي أن يعمل به اقتصاد السوق الحر، لكن لا يوجد سبيل آخر لكسر قبضة الصين على المعادن الأرضية النادرة.
هذه مشكلة عالمية، وينبغي تشجيع دول مثل كندا وأستراليا والمكسيك على تسريع تطوير المشاريع، قد يتطلب هذا قروضاً وحصصاً في رأس المال ودعماً للأسعار، على غرار صفقة “إم بي ماتيريالز”.
على سبيل المثال، ستبني إدارة ترامب طريقاً بطول 340 كيلومتر في ألاسكا لفتح منطقة أمبلر للتعدين النائية، واستحوذت على حصة في شركة “تريولوجي ميتالز” الكندية، التي تسعى لاستخراج النحاس والكوبالت والغاليوم والجرمانيوم ومعادن صناعية أخرى، كما قدمت الوزارة قرضاً واستحوذت على حصة في شركة “ليثيوم أمريكا” الكندية لإطلاق مشروع تعدين الليثيوم في ثاكر باس في نيفادا.
يصطدم هذا المشروع الأخير بالخط الفاصل بين ما يُعتبر قضية أمن قومي.
لا شك أن إلحاح الرئيس دونالد ترمب على شركة “إنتل” لتسليمها حصة 10%، وضغطه على شركة “يو إس ستيل” لمنح الحكومة حصة ذهبية، قد تجاوز خطوطاً.
مقاربة غير سليمة
يبدو أن ترامب يعتقد أنه يحصل على صفقة جيدة لدافعي الضرائب من خلال ترهيب الشركات للتنازل عن ملكيتها.
إنها سابقة غير صحية يجب أن يعارضها الجميع، وخاصة من شجبوا خطة إنقاذ صناعة السيارات الأمريكية بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008.
إن الحاجة إلى تطوير مشاريع تعدين وتكرير المعادن النادرة واضحة.
تستطيع الصين إغلاق مصانع السيارات الأمريكية وغيرها من الشركات المصنعة من خلال حجب المعادن والمغناطيسات الصناعية، ومع ذلك، ينبغي أن تكون حصص الحكومة في هذه المشاريع ودعم الأسعار مؤقتة، وأن تُتراجع فور فكّ قبضة بكين.
إن المأزق الحالي الذ تولّد بسبب هيمنة الصين على المعادن الأرضية النادرة جدير بالملاحظة بالنسبة لمن يحثون على زوال سريع للنفط والغاز المتوفرين بكثرة في الولايات المتحدة لصالح توربينات الرياح والألواح الشمسية وبطاريات الليثيوم لتخزين الطاقة- وهي جميعها مجالات تهيمن عليها الصين الآن، إن تسليم أمن الطاقة الأمريكي للصين من شأنه أن يشكل تهديداً أكبر للأمن القومي.
إن الوضع المزعج المتمثل في الاعتماد على خصم للحصول على المعادن الأرضية النادرة له حل، وتقصير أمد ذلك أمر ملح. يجب أن يكون الدعم الحكومي قوياً، ولكن منع إيضاح هدف التخارج من الحصص بمجرد انحسار الأزمة، كما ينبغي أن تكون فترة الضعف هذه درساً في عدم الخضوع للصين في جوانب رئيسية أخرى من الاقتصاد.








