ما يثير قلق البنوك المركزية وقوع «بدائل النقد» تحت سيطرة مؤسسات غير أوروبية
تُبرز خطوة تبدو متناقضة من البنك المركزى الألمانى، مأزقاً يواجه البنوك المركزية فى مختلف أنحاء أوروبا.
فالبنك المركزى الألمانى «البوندسبنك» يُعد من أشد الداعمين لخطط المركزى الأوروبى لإطلاق «اليورو الرقمى»، وفى الوقت نفسه بدأ حملة ضغط للترويج لاستخدام النقد.
فى الواقع، فإنَّ الدفع فى اتجاه تعزيز استخدام النقد، وكذلك التوسع فى اليورو الرقمي، هما ـ إذا جاز التعبير ـ وجهان لعملة واحدة.
فالبنوك المركزية فى منطقة اليورو تخوض معركة معقدة للحفاظ على سيطرتها على عمليات معالجة المدفوعات، وهى مهمة تبدو اعتيادية لكنها تشكل جزءاً حيوياً من البنية المالية الأساسية.
فمثل الكهرباء أو إمدادات المياه، لا يدرك أغلب الناس أهميتها القصوى إلا عند حدوث اضطراب فيها.
تملك البنوك المركزية أسباباً قوية تدعوها للقلق، فالوسيلة الأساسية التى تمنح هذه المؤسسات نفوذها على المدفوعات فى 21 دولة ستعتمد اليورو قريباً، أى النقد، تشهد تراجعاً مستمراً.
ففى عام 2024، لم تُستخدم العملات الورقية والمعدنية إلا فى 52% من المعاملات، مقارنةً بنسبة 72% قبل خمس سنوات فقط، وفق بيانات البنك المركزى الأوروبى.
كما رفضت 12% من الشركات قبول المدفوعات النقدية بالكامل العام الماضى، فى ارتفاع يعادل ثلاثة أضعاف خلال ثلاث سنوات، حسب ما نقلته صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية.
باستثناء أنصار النقد الذين يعتبرون الأوراق المالية «حرية مطبوعة»، لا يُعد هذا الاتجاه مشكلة بحد ذاته.
لكن ما يثير قلق البنوك المركزية الأوروبية بشكل متزايد هو أن البديل للنقد يقع غالباً تحت سيطرة مؤسسات غير أوروبية، فالشركات الأمريكية مثل «فيزا» و«ماستركارد» و«باى بال» تسيطر على المشهد.
ثلاثة من كل أربعة بلدان فى منطقة اليورو تفتقر إلى منظومة وطنية فعّالة للمدفوعات الرقمية داخل المتاجر.
كما أن الأصول الرقمية المرتبطة بقيمة العملات التقليدية، أو ما يُعرف بالعملات المستقرة، مقومة فى معظمها بالدولار.
وهذه العملات التى يصدرها القطاع الخاص بدعم سياسى أمريكى، تنمو بوتيرة سريعة وتخلق مخاطر متعددة لصناع السياسة النقدية فى أوروبا.
إطلاق اليورو الرقمى مرهون بموافقة بروكسل قبل نهاية العقد الحالى
وفى عصر تتبنى فيه الحكومة الأمريكية نهجاً صلباً يخدم مصالحها الاقتصادية الضيّقة، بما فى ذلك استخدام القوة الاقتصادية كأداة ضغط، يصبح وجود العمود الفقرى لمنظومتك المالية تحت سيطرة خارجية وضعاً غير مريح.
ويمكن تخيل سيناريو يربط فيه رئيس أمريكى مستقبلى مطالب سياسية بتهديد منع شركات المدفوعات الأمريكية من العمل فى أوروبا.
يرد البنك المركزى الأوروبى على هذا المأزق عبر إصدار النسخة الإلكترونية من العملات المعدنية والورقية، حيث عملة رقمية ستتقاسم وضع «عملة قانونية» تُستخدم فى المتاجر وعبر الإنترنت وفى التحويلات بين الأفراد.
ويريد البنك المركزى الأوروبى إدخال اليورو الرقمى خلال هذا العقد إذا حصل على الضوء الأخضر القانونى من بروكسل.
وهنا تبدأ التعقيدات؛ إذ تقود مجموعة من أكبر البنوك الأوروبية، من بينها «دويتشه بنك» و«بى إن بى باريبا» و«آى إن جى»، حملة ضغط ضد اليورو الرقمى، وقد حصلت على دعم نائب فى البرلمان الأوروبى كُلف بتقييم المشروع.
يطالب الطرفان بإطلاق نسخة مخفضة من اليورو الرقمى، محذرين من أنه قد يقوض المحاولة الأخيرة لصناعة البنوك الأوروبية لإطلاق منافس فعلى لـ«فيزا» و«ماستركارد» و«باى بال».
ويحمل هذا المنافس اسم «ويرو»، وقد انطلق عام 2024 ويقول إنه يمتلك بالفعل أكثر من 46 مليون مستخدم فى أوروبا، حيث بدأ بخدمة محدودة للتحويلات بين الأفراد، لكنه يستعد للتوسع ليصبح منافساً كاملاً للعمالقة الأمريكيين، وركيزة لـ«منظومة مدفوعات أوروبية ذات سيادة».
ينفى البنك المركزى الأوروبى أن اليورو الرقمى يشكّل خياراً منافساً لـ«ويرو»، مؤكداً أنه يوفر فقط بنية تحتية يمكن للقطاع الخاص الاستفادة منها.
لكن الطبيعة الاقتصادية المعقدة لأنظمة الدفع تجعل حتى مجرد الشعور بوجود منافس محتمل أمراً مؤثراً؛ إذ إن التردد الفردى يفاقم صعوبة المهمة على الجميع.
فبالنسبة للتجار، يزداد جاذبية «ويرو» كلما اعتمدته الأسر فى منطقة اليورو.
وبالنسبة للأسر، يزداد استخدام المنظومة الجديدة كلما توفر عدد أكبر من الأماكن لقبول الخدمة، وهو ما يسميه الاقتصاديون «تأثير الشبكة»، وهى معضلة الدجاجة والبيضة التقليدية.
من الصعب تجاوز هذا التحدى حتى فى أفضل الظروف، خاصةً عندما يكون اللاعبون الحاليون مترسخين، ولا يملك المستخدمون أو التجار حافزاً كافياً للتغيير.
وبسبب اختلاف الجداول الزمنية؛ إذ ينتشر «ويرو» حالياً بينما لا يمكن للبنك المركزى الأوروبى إطلاق اليورو الرقمى قبل عام 2029، تواجه منطقة اليورو مخاطرة محرجة.
فإذا أعاق اليورو الرقمى تطوّر «ويرو» أولاً، ثم تعثر لاحقاً بسبب معارضة سياسية أو تعقيدات تقنية، فقد تجد المنطقة نفسها من دون هذا ولا ذاك.








