تشهد الشركات الصينية في أفريقيا تحولاً لافتاً، بعدما انتقل ثقل حضورها من هيمنة المؤسسات الحكومية على المشروعات الكبرى إلى توسع متسارع في منتجات المستهلك التي يقودها القطاع الخاص.
رغم الأداء القوي لاقتصادات أفريقيا الأسرع نمواً، مثل كينيا وأوغندا وزامبيا، التي تحقق معدلات نمو سنوية تصل إلى 4.8% و6.4% و5.8%، إلا أن النمو الإجمالي للقارة البالغ عدد دولها أكثر من 50 يظل عند مستوى 4.1%، وفق تقرير الآفاق الاقتصادية لصندوق النقد الدولي الصادر الشهر الماضي.
تُظهر البيانات تراجع الاستثمارات الصينية في القطاعات الأفريقية كثيفة الموارد بنحو 40% منذ ذروتها عام 2015، نتيجة هبوط العوائد وتقلّص إيرادات البناء في الصناعات المرتبطة بالسلع الأساسية، بحسب تقرير “روديوم جروب” الصادر في 18 نوفمبر.
في المقابل، صعدت صادرات الصين إلى أفريقيا بنسبة 28% على أساس سنوي خلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2025، بعد زيادة بلغت 57% بين عامي 2020 و2024، وفق التقرير.
ويتركز معظم ما تصدره الصين إلى أفريقيا حالياً في سلع صناعية مرتفعة القيمة المضافة تشمل الإلكترونيات والمنتجات البلاستيكية والمنسوجات، وفق ما أوردته شبكة “سي إن بي سي” الأمريكية.
وقال جو نجاي، رئيس شركة “ماكينزي” في الصين الكبرى، إن “في البدايات، كانت الشركات الصينية التي تتوجه إلى أفريقيا تعمل بشكل أكبر في البنية التحتية والتنقيب عن المعادن الطبيعية”.
وأضاف أنه “خلال السنوات الأخيرة، بدأ كثيرون يفكّرون في السوق الاستهلاكي الأفريقي”، محذراً من أن تجزؤ الأسواق وهامش الربح المحدود قد يصعبان تلك التوسعات.
يأتي هذا التحول بالتزامن مع انعقاد أول قمة لمجموعة العشرين على أرض أفريقية، والتي انطلقت مطلع الأسبوع في جنوب أفريقيا.
وبينما اقتصرت مشاركة الولايات المتحدة على إرسال سفيرها بالإنابة، حضر رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ ممثلاً لبكين، الأمر الذي خلق مساحة أوسع لعقد محادثات اقتصادية رفيعة المستوى.
من جانبها، قالت هيذر لي، مؤسسة شركة “ذا دوت كونيكتور” ومستشارة العلاقات الصينية الأفريقية، إن السنوات الماضية كانت تشهد معرفة ضئيلة داخل الصين بما يحدث في أفريقيا، “لكن الآن هناك رحلات عمل أكثر، وإرسال موظفين إضافيين إلى الخارج”، وباتت العلاقة أكثر نشاطاً.
وأضافت أن الشركات الصينية الكبرى بدأت ترسل أصحاب القرار مباشرة إلى أفريقيا لاستكشاف الفرص المحددة.
في ظل أزمة نقص الكهرباء في غرب أفريقيا، تشير “لي”، إلى أن المنتجات الشمسية الصينية تلقى رواجاً سريعاً، إلى جانب ارتفاع الطلب على المستلزمات الطبية ومنتجات الأطفال والسلع المنزلية المنتشرة عبر عدة أسواق أفريقية.
رسخت شركات صينية عديدة حضورها بالفعل داخل القارة، مثل شركة الهواتف الذكية “ترانسيشن” التي أصبحت لاعباً رئيسياً في السوق الأفريقية، وشركة الاتصالات العملاقة “هواوي”، إضافة إلى شركة الأجهزة المنزلية “ميديا”.
وفي يوليو، ذكرت وسائل إعلام صينية رسمية أن مجموعة “ميديا” وقعت اتفاقية مع الاتحاد الأفريقي لكرة القدم لتعزيز استثماراتها في المنطقة، وكانت الشركة قد أنشأت مصانع في مصر وتدرس إنشاء مصانع إضافية.
تزايد الاهتمام عبر وسائل التواصل الاجتماعي الصينية
يتضح التحول ليس فقط من خلال البيانات الاستثمارية، بل أيضاً من تجارب رواد الأعمال الصينيين المنشورة عبر الإنترنت.
فمنصات مثل “شياوهوونجشو” و”بيليبيلي” امتلأت خلال العام الماضي بمحتوى يصور أفريقيا كوجهة صاعدة للمشاريع الصغيرة والمرنة، بما يشمل التجارة الإلكترونية، والدروبشيبينج والتصنيع، والبيع بالتجزئة المرتبط بسلاسل التوريد الصينية.
قال جوزيف كيشي، المستثمر النيجيري في العقارات وخبير الاستراتيجيات التجارية، والذي عمل عن قرب مع رواد أعمال صينيين، إن بعضهم حقق دخلاً يصل إلى ستة أرقام بالدولار الأمريكي خلال عامهم الأول.
رغم تحذير لي من أن بعض القصص قد تكون مبالغاً فيها، فإنها رأت أن انتشارها يزيد وعي الصينيين بفرص أفريقيا.
تؤكد بيانات “يورومونيتور إنترناشونال” أن هذا التوجه أصبح أوسع نطاقاً، مشيرة إلى أن الكثير من الشركات الصينية في أفريقيا تبيع سلعاً استهلاكية أساسية مثل الحفاضات والمنتجات المنزلية والصلصات المعبأة والوجبات الخفيفة.
وقالت كريستي تاوي، مديرة الرؤى الإقليمية في “يورومونيتور إنترناشيونال”، إنه “مع تسارع التحضر، وزيادة الشباب، واتساع ارتباط الأسر بالإنترنت، سيصل إنفاق المستهلكين في القارة إلى أكثر من تريليوني دولار بحلول 2030″، كما أشارت إلى صعود منصات التجارة الإلكترونية مثل “تشاينا سوبرماركت” التي توسع وصول العلامات الصينية إلى المنازل الأفريقية.
يأمل كثير من رواد الأعمال في أن يسهم الاستخدام المتزايد لعملة اليوان الصينية في أفريقيا في تقليل مخاطر التعاملات وتعزيز الروابط التجارية.
ويُستخدم اليوان حالياً في “30% من فواتير التجارة”، وفق تقرير “روديوم جروب”.
غير أن “روديوم جروب” و”أتلانتيك كاونسل” يحذران من وجود “سقف هيكلي” أمام توسع استخدام اليوان، بسبب الفائض التجاري الصيني الكبير مع معظم شركائه الأفارقة، واعتماد الاقتصاد العالمي على الدولار الأمريكي.
مخاطر الاعتماد على التصدير فقط
يتنامى اهتمام الشركات الصينية بالسوق الأفريقية مع انحسار هوامش الربح داخل الصين بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي والمنافسة الشديدة.
ويصبح بيع المنتجات للمستهلك الأفريقي أكثر جاذبية للشركات الصينية مع ارتفاع الحواجز التجارية في وجهها داخل الولايات المتحدة وأوروبا، بحسب “روديوم جروب”.
وطرح محللوه سيناريو “الركود”، حيث تتدفق الصادرات الصينية بشكل أكبر إلى مناطق مثل أفريقيا إذا لم تتمكن الصين من معالجة فائض الإنتاج وواجهت قيوداً إضافية في أوروبا.
ورغم أن الواردات الرخيصة تفيد المستهلكين، إلا أن تدفق السلع منخفضة التكلفة يمكن أن يضعف التصنيع المحلي ويعمق اختلالات التجارة في أفريقيا كما في مناطق أخرى من العالم.
وقال إيبيبيري كلارك، الزميل الزائر في المعهد الأفريقي لبحوث السياسات: “سيكون من الضروري النظر إلى أفريقيا ليس فقط كسوق استهلاكية، بل كسوق تنتج السلع التي تستهلكها القارة نفسها”، وبالفعل، بدأت شركات صينية بإطلاق عمليات تصنيع محلية.
وقالت هيذر لي من “ذا دوت كونيكتور”، إن “هناك دفع أكبر نحو التصنيع في أفريقيا. فقد شاركت في مشاريع استشارية لجذب الصناعات الخفيفة الصينية لنقل التصنيع إلى أفريقيا، حيث تحظى أيضاً بأولوية دخول أسواق الولايات المتحدة وأوروبا”.
تبيع شركة “سوندا إنترناشيونال”، ومقرها غوانغجو، مجموعة واسعة من السلع من أدوات زراعية إلى منتجات استهلاكية يومية، وتقول إنها كثفت إنشاء أكثر من 20 مركزاً إنتاجياً في أفريقيا خلال العقد الماضي.
وتحقق الشركة ما يصل إلى 450 مليون دولار سنوياً من تزويد الأسواق الأفريقية بالسلع الأساسية، بحسب تقارير.
ويقع عدد من مصانع “سوندا إنترناشيونال” في زامبيا، حيث وقع لي تشيانج الأسبوع الماضي اتفاقية بقيمة 1.4 مليار دولار لتحديث خط سكة حديد يربط البلاد بالمحيط الهندي بهدف زيادة حجم الشحن بشكل كبير.








