الذكاء الاصطناعي يعد بتحسين تقييمات الائتمان لكنه يظل مقيداً بندرة البيانات المتاحة حالياً
عام 2011، سعت الحكومة البريطانية بقيادة المحافظين إلى تعزيز الإقراض الموجه للشركات الصغيرة عبر برنامج عُرف باسم “مشروع ميرلين”.
وبالعودة إلى الوراء، يبدو اختيار اسم يرتبط بالسحر، توصيفاً دقيقاً، إذ إن إصلاح العلاقة بين المصارف وقطاع الأعمال تظل مهمة أشبه بمحاولة تتجاوز قدرات البشر العاديين.
كان وزير الخزانة حينها جورج أوزبورن يطمح من خلال البرنامج إلى تفادي تكرار أزمة شحّ الائتمان التي سبقت الأزمة المالية العالمية.
فأحداث عام 2008 أثبتت أن انكماش الإقراض الجديد قادر على تعميق تباطؤ النمو الاقتصادي، بما يضاعف الضغوط على ميزانيات المصارف ويؤدي إلى مزيد من القيود الائتمانية.
وبعد ما يقرب من عقدين، تحولت مساعي أوزبورن إلى فشل ذريع، فرغم الوعود المتكررة بالإقراض والتحقيقات التنظيمية والبرامج الحكومية وظهور منافسين جدد، لم تتوقف فعلياً عملية خفض مديونية الشركات الصغيرة والمتوسطة التي بدأت في 2007.
واليوم، تجد وزيرة الخزانة راشيل ريفز نفسها أمام مهمة جديدة تحاول من خلالها ممارسة نوع آخر من “السحر المالي”.
تكشف بيانات الإقراض الصادرة عن المصارف صورة واضحة، لكنها مخيبة، لحجم التحدي، إذ تراجعت القروض القائمة للشركات الصغيرة والمتوسطة منذ أن بدأ بنك إنجلترا نشر هذه البيانات في 2011، ومع تعديل الأرقام وفق التضخم تصبح الصورة أكثر قتامة.
وقد نجح المقرضون غير المصرفيين في ردم جزء من الفجوة، لكنهم لم يتمكنوا من سدها بالكامل، بحسب ما ذكرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
ورغم أن خفض مديونية الشركات كان ضرورياً بعد الإفراط الذي سبق الأزمة المالية، فإن المملكة المتحدة اتجهت اليوم إلى النقيض تماماً، فمن بين 41 دولة شملها تقييم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لم تسجّل سوى سبع دول معدلات اقتراض أقل للشركات الصغيرة والمتوسطة مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي.
وهي نتيجة تُعد ضعيفة للغاية بالنسبة لبلد يوصف تقليدياً بأنه “أمة من أصحاب المتاجر”.
لا يُعد وضع الشركات الصغيرة مسألة هامشية بالنسبة لوزيرة الخزانة التي تحاول انتشال الاقتصاد البريطاني من أزمته المالية، فهذه الشركات الصغيرة والمتوسطة تشكّل عماد سوق العمل في البلاد وتمثّل جزءاً كبيراً من نمو القطاع الخاص. كما أنها تضم ملايين الكيانات، من حرفي يعمل بمفرده إلى شركة عالمية متخصصة في التصوير الطبي تدير عمليات في قارات عدة.
وحين تعجز الشركات الصغيرة عن الحصول على التمويل، يتراجع إنفاقها تلقائياً.
وقد أدّى ضعف الاستثمار خلال السنوات الماضية إلى مستويات متدنية من نمو الإنتاجية، ما ولّد تحديات إضافية، أبرزها أن خفض توقعات الإنتاجية مؤخراً من جانب مكتب مسؤولية الميزانية أضاف نحو 20 مليار جنيه إسترليني إلى العجز المالي البريطاني.
تبدأ أي محاولة لمعالجة أزمة الائتمان من معضلة أولى، ألا وهي أن المصارف والشركات لا تتفقان حتى على أسباب المشكلة.
لكن إذا نجحت ريفز في تحقيق ما عجز عنه أوزبورن وستة من وزراء الخزانة الذين خلفوه، فقد يحصل الاقتصاد على دفعة حقيقية.
ما تحتاجه المرحلة هو عمل جماعي يضم المصرفيين والجهات التنظيمية وخبراء التكنولوجيا، والأهم، وربما الأصعب، هو تغيير في طريقة التفكير السائدة.
البيروقراطية وإعادة الهيكلة
إذا سألت مصرفياً عن سبب تعثر إقراض الشركات الصغيرة، فستكون إجابته المعتادة أن المشكلة تكمن في تراكم اللوائح التنظيمية.
لكن ريفز نفسها سبق أن أكدت مراراً أن القواعد التي فُرضت بعد الأزمة المالية جاءت على حساب النمو، لأنها وضعت سلامة النظام المالي فوق أي اعتبار اقتصادي آخر.
صحيح أن هذه القواعد الصارمة جعلت إقراض الشركات الصغيرة مهمة أكثر تعقيداً مقارنة بالأنشطة المصرفية الأخرى.
ولسبب منطقي، فالشركات الصغيرة أكثر عرضة للتعثر، ومن الطبيعي أن يُطلب من المصارف الاحتفاظ برأس مال إضافي لتغطية الخسائر المحتملة المرتبطة بقروض الشركات الصغيرة والمتوسطة.
وهذا الواقع يدفع المصارف الكبرى إلى تفضيل أنشطة أقل مخاطرة وأكثر ربحية، مثل الرهون العقارية السكنية.
ساهمت موجات تحرير السوق في السبعينيات والثمانينيات، وتوسع ملكية المنازل، وطفرة قروض الاستثمار العقاري، في جعل الإقراض العقاري اليوم يشكل أكثر من نصف الإقراض المصرفي في المملكة المتحدة.
مع ذلك، تبقى هناك لوائح قد تُحدث ضرراً أكبر من فائدتها.
فعلى سبيل المثال، تُفرض على المصارف التي يتركز نشاطها داخل بريطانيا رسوم رأسمالية إضافية مرتبطة بما يُعرف بـ”مخاطر التركّز الجغرافي”، ما يزيد من تكلفة الإقراض لجميع الأنشطة باستثناء الرهون العقارية.
ويدرس كلاً من بنك إنجلترا وهيئة السلوك المالي كيفية تخفيف هذا العبء عن المقرضين الأصغر الذين يحاولون سد الثغرات الائتمانية في السوق.
كما توجد أدوات أخرى تتعلق بطريقة احتساب المخاطر، إذ يمكن للمصارف الكبرى أن تتقدم بطلب لاعتماد “التصنيفات الداخلية” المبنية على خبرتها الفعلية، بدلاً من استخدام النماذج الموحدة.
هذا قد يُتيح تحرير جزء كبير من رأس المال وإتاحته للإقراض، خاصة للمصارف التي تتقن إدارة المخاطر.
لكن هذه الخطوة لم تُعتمد في أي مصرف بريطاني منذ أكثر من ثماني سنوات.
وبالطبع، ينبغي تطبيق مثل هذه التعديلات بحذر، لأن أي تخفيف غير محسوب قد يخلق مشكلات مستقبلية أكبر.
في الوقت نفسه، يتعين على المصارف الاعتراف بأن جزءاً من التحديات الحالية سببه قرارات داخلية، وليس اللوائح وحدها.
فالابتعاد عن نموذج الفروع التقليدية والتخلي عن مديري العلاقات المحليين جعل فهم الملفات المعقدة والتعامل مع الحالات المتنوعة أكثر صعوبة.
تُعد المطاعم مثالاً واضحاً على القطاعات التي تجعل المخاوف المتكررة بشأن ارتفاع التكاليف وتباطؤ الاقتصاد عملية الحصول على التمويل أكثر تعقيداً، حتى بالنسبة لشركات تمتلك مسار نمو قوياً.
لهذا لجأت سلاسل مثل “فلات آيرون” و”هونيست بورجرز”، المدعومتين برأس مال خاص، إلى مصرف “أوك نورث” بدلاً من المقرضين التقليديين لتنفيذ توسعاتهما الأخيرة.
هذا النوع من التقييم المتعمق أصبح اليوم محصوراً إلى حد كبير في خدمات الائتمان الموجهة للشركات الكبيرة، بينما يواجه أصحاب الأعمال الصغيرة شروطاً أشد صعوبة، إذ يُشترط عليهم في كثير من الحالات تقديم ضمانات شخصية تعرض منازلهم للخطر.
مع ذلك، يبرهن نموذج “أوك نورث” على أن الإقراض للشركات الصغيرة والمتوسطة مشروع مربح، كما يظهر في نجاح مقرضين متخصصين مثل “أليكا” و”شو بروك”.
وقد عاد الأخير مؤخراً إلى السوق عبر أكبر طرح أولي في لندن هذا العام، معلناً عائداً على الأسهم الملموسة يقترب من 18%، متفوقاً بذلك على “لويدز بانكينج جروب”.
ندوب الأزمة المالية
لكن ماذا لو كان جزء من المشكلة مصدره العملاء أنفسهم؟
فالمصارف ليست وحدها التي تحمل آثار الأزمة المالية، إذ تقول جهات إقراض عديدة إنها مستعدة لزيادة التمويل، لكنها لا تتلقى طلبات كافية.
وبالفعل، يظهر مسح بنك إنجلترا أن استعداد المصارف لإقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة يتحسن منذ منتصف 2023، في أطول موجة إيجابية مسجلة، لكن دراسة اتحاد الشركات الصغيرة تشير إلى “تشاؤم كبير” حول الاقتصاد، إذ يرى أقل من %10 فقط أن الائتمان متاح بشكل جيد.
ولا يرتبط هذا التشاؤم بالموازنة وحدها، بل بميول أوسع لتجنب المخاطرة.
فقد كشف مسح آخر للبنك عام 2023 أن أكثر من ثلاثة أرباع الشركات تفضّل النمو البطيء على الاقتراض.
ورغم أن برامج كورونا قلصت عدد “غير المقترضين الدائمين”، فإنهم ما زالوا يشكلون أكثر من ثلث الشركات الصغيرة والمتوسطة.
وقد يكون للثقافة دور، لكن ذلك لا يفسر وحده لماذا تتراجع معدلات الاقتراض في بريطانيا مقارنة بدول مثل إسبانيا وألمانيا وفرنسا.
فالكثير من الشركات ترى أن نقص المعرفة، والرفض المتكرر، والفضائح المصرفية، وعدم اليقين الاقتصادي يجعل التقدم للحصول على تمويل أمراً غير مجدٍ.
وبينما كان الرفض يشمل 4% فقط من المتقدمين عام 2007، تجاوز اليوم 40%، ما يدفع الشركات إلى الاعتقاد بأن رفض مصرفها الرئيسي يعني بالضرورة أن جميع المقرضين سيرفضون، رغم أن الجهات المتخصصة غالباً ما تكون أكثر استعداداً للتمويل.
انتقادات لبريطانيا
يبقى السؤال الأهم: ما الذي قد ينعش الطلب على الإقراض مجدداً؟
يرى المتفائلون أن الأسوأ قد انقضى بالفعل، بعدما تسببت أحداث مثل بريكست والحرب الروسية الأوكرانية وجائحة كورونا في زعزعة ثقة الشركات لسنوات.
واليوم تشير البيانات إلى تحسّن نسبي في أحجام القروض، لكن هذا التحسن لا يكفي لمعالجة فجوة الائتمان المتجذّرة.
تبرز ثلاثة مسارات يمكن أن تساعد في تغيير المعادلة.
أولها التكنولوجيا، وتحديداً الذكاء الاصطناعي، الذي يُطرح كأداة قادرة على تحسين عمليات تقييم الجدارة الائتمانية وتسريع اتخاذ القرار.
ويمكن لهذه التقنيات أيضاً تحسين تواصل المصارف مع الشركات واستهدافها بشكل أدق.
إلا أن التطور في الذكاء الاصطناعي قد يسير ببطء مقارنة بالتوقعات، فهو ما يزال يعتمد على الإشراف البشري ويتطلب بيانات وفيرة، وهي شحيحة نتيجة تراجع الإقراض طوال العقدين الماضيين.
مع ذلك، قد يصبح الذكاء الاصطناعي أداة مضاعفة الأثر، خاصة في ظل إحجام المصارف البريطانية عن توسيع شبكات الفروع كما تفعل المصارف الأميركية.
أما المسار الثاني، وإن كان أقل ترحيباً لدى ريفز، فهو التدخل الحكومي.
فالمصارف لا تحمل التزاماً اجتماعياً بإقراض الشركات الصغيرة، ما يعني أن أي توسع في الإقراض يحتاج إلى حوافز.
ويمكن لبرامج ضمان القروض أن تكون أكثر فعالية، خصوصاً للشركات التي تفتقر إلى أصول ملموسة، كما هو الحال في القطاعات التكنولوجية والابتكارية.
ويمكن تخفيف الأثر المالي على الخزانة عبر حلول محاسبية تعتمد على ضمانات أكبر ورسوم أعلى.
ويبقى العامل الأخير والأعمق هو العامل النفسي، فالشركات لن تقترض ما دامت ترى المستقبل غامضاً.
ورغم اقتراب مؤشر “فوتسي 100” من مستويات قياسية وتراجع التضخم والفائدة وتحقيق بريطانيا واحداً من أعلى معدلات النمو بين الاقتصادات المتقدمة، لا يزال الخطاب العام غارقاً في التشاؤم، إذ يكرر نايجل فاراج، زعيم حزب “ريفرم يو كيه”، الحديث عن “انهيار اقتصادي” بحلول 2027.
تصبح موازنة ريفز اختباراً مزدوجاً، حيث تُعد اختبار لقدرتها على سد الفجوة المالية، والأهم سدّ الفجوة النفسية.
فالشركات الصغيرة، كما يقول اتحاد الشركات الصغيرة، تحتاج قبل أي شيء إلى “الاستقرار”، وإحياء روح المبادرة لدى هذه الشركات قد يكون المفتاح الحقيقي لإنهاء أزمة الائتمان المستمرة في المملكة المتحدة.








