بقلم:د. هانى سرى الدين
اتصل بى عدد من ممثلى شركات سوق المال والشركات المقيدة بالبورصة خلال الأسبوعين الماضيين، يشكون مما قامت به هيئة الرقابة المالية من إحالة أكثر من 630 قضية إلى النيابة العامة للشئون المالية، وذلك فى أسبوع واحد، فالهيئة قررت مؤخراً إحالة عدد من الشكاوى إلى النيابة العامة قبل فحصها من قبل الهيئة.
وتأكد ذلك فى تصريح لرئيس الهيئة لجريدة «الأهرام» منتصف الشهر الجارى كشف عن أن حوالى 60% من الشكاوى التى تمت إحالتها إلى النيابة العامة لم يتم فحصها من قبل الهيئة، وقد أزعجنى هذا الأمر بشكل كبير، لأنه يعنى أن الهيئة قررت أن تتخلى عن دورها الرئيسى، كما أزعجتنى أيضاً طريقة التعامل مع القضايا الاقتصادية.
إن هيئة الرقابة المالية هى الجهة المنوط بها الرقابة على القطاع المالى غير المصرفى، ويشمل سوق المال والبورصة والتأمين والتمويل العقارى والتأجير التمويلى، وغيرها من أنشطة التمويل غير المصرفى، فهو قطاع حيوى للاقتصاد القومى ويضم آلاف العاملين، ويتعلق باستثمارات بآلاف المليارات من الجنيهات، والهيئة العامة للرقابة المالية مسئولة عن اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة للحد من المخاطر غير التجارية للقطاع المالى غير المصرفى، وحماية المستثمرين فيه، كما أنها مسئولة كذلك عن دعم هذا القطاع وتطويره، ولا يقل دور هذه الهيئة أهمية عن البنك المركزى المصرى، وهو الجهة المنوط بها الرقابة على القطاع المالى المصرفى «البنوك» ووضع السياسة النقدية وفى العديد من الدول الناطقة باللغة الإنجليزية، فإن مسئولية الرقابة على القطاع المصرفى أسندت إلى هيئات الرقابة المالية وليس البنك المركزى، وهو ما يدل على أهمية تلك الجهة الرقابية.
وللأسف الشديد، فإن مسلك الهيئة الأخير وما دأبت عليه خاصة بعد ثورة 25 يناير من إحالة القضايا الاقتصادية الخاصة بالقطاع المالى غير المصرفى إلى النيابة العامة دون فحص أو تمحيص أو دراسة متأنية له دلالات فى منتهى الخطورة وآثار سلبية هائلة على هذا القطاع، وهو ما يقتضى وقفة جادة فى هذا الشأن.
فهذا المسلك يعنى تخلى الهيئة عن الدور الذى أناطه بها القانون، فقانون هيئة الرقابة المالية – شأنه فى ذلك شأن قانون البنك المركزى المصرى – لا يجيز تحريك الدعوى الجنائية فى القطاع المالى غير المصرفى إلا بناءً على طلب رئيس هيئة الرقابة المالية وهو ما يعنى أنه لا يجوز تحريك أى دعوى جنائية تتعلق بالقطاع إلا بعد دراسة متأنية من الهيئة وفحص. فإحالة الدعاوى الجنائية للنيابة العامة دون دراسة داخل الهيئة يعنى ولا شك تخلى الهيئة عن مسئوليتها القانونية. وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلاً.
كما أن إحالة جميع القضايا الاقتصادية المالية إلى النيابة العامة دون إخطار أطرافها أولاً بالمخالفة، ومنحهم مهلة لإزالتها أو التصالح بشأنها فيه كذلك إخلال بفلسفة القانون، والتى تجيز التصالح على هذه المخالفات حتى بعد صدور حكم نهائى فى الدعوى، ويتعارض هذا السلوك أيضاً مع مبادئ العدالة، ويهدر مبدأ المواجهة، فيفاجأ الشخص المعنى بإحالته إلى النيابة العامة دون إخطار أطرافها أولاً بالمخالفة، ومنحهم مهلة لإزالتها أو التصالح بشأنها فيه كذلك إخلال بفلسفة القانون، والتى تجيز التصالح على هذه المخالفات حتى بعد صدور حكم نهائى فى الدعوى، ويتعارض هذا السلوك أيضاً مع مبادئ العدالة، ويهدر مبدأ المواجهة، فيفاجأ الشخص المعنى بإحالته إلى النيابة العامة ثم إلى المحاكمة دون إجراء أى تحقيق، ودون مواجهته بالمخالفات المنسوبة إليه، ودون منحه مهلة لإبداء وجهة نظره ودفاعه، ودون إعطائه مهلة لإزالة المخالفة، أو التصالح، فكل هذا إهدار للمال والوقت والأهم إهدار للعدالة.
إن هذا الكم من القضايا المحالة فى أسبوع واحد يعادل ما تمت إحالته من قضايا على مدار عامين، أو أكثر، وذلك دليل علي الفشل الذريع للرقابة المالية فالرقابة المالية الحديثة تقوم فلسفتها على الرقابة الوقائية، أى الرقابة المالية لحصول المخالفات فإحالة هذا القدر الكبير من المخالفات دليل على الفشل الرقابى الذى يستوجب الحد من ارتكاب المخالفات، وهو ما يسمى بالرقابة السابقة، أى رقابة الحد من المخاطر، فالرقيب دوره الرئيسى الحد من ارتكاب المخالفات والحد من آثارها إن وقعت.
فى هذا الإطار، يدور تساؤل مهم بشأن اعتبارات الملاءمة، ومدى جدوى إحالة هذا القدر الكبير من القضايا مهما بلغت ضآلة قيمتها، ومهما انعدمت خطورتها الاقتصادية، ومهما انخفضت جسامتها أليس فى إحالة هذه القضايا دون إجراءات فحص مسبقة إرهاق شديد للنيابة العامة دون مبرر، أليس فى ذلك مضيعة للوقت والمال وما يستوجبه من تعيين لخبراء ومحامين فى قضايا تافهة القيمة ولا تمثل أى جسامة. إن لعب دور «المحولجى» من قبل الرقيب من باب راحة البال، هو تخلٍ عن المسئولية القانونية، وإلقاء عبء غير ضرورى على القضاء والنيابة، ونوع من الاستسهال فى هذه الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة، وهو مصيبة ودلالة على عدم إدراك لخطورة الموقف، وأتساءل هل تدرك الهيئة التكلفة المالية والإدارية والآثار الوخيمة لهذا السلوك، فالجميع يعلم أن أكثر من 50% من الشركات العاملة فى هذا القطاع، وبخاصة سوق المال قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس، وأنها مهددة بالتوقف عن النشاط، وهو ما يهدد قوت الآلاف من العاملين فى هذا القطاع، حيث بلغ حجم التداول فى سوق المال إلى أدنى مستوياته منذ أكثر من عشر سنوات، فهل من الملائم فى هذا التوقيت العصيب أن نضيف أعباء على أعباء دون دراسة، هل يتفق مع مقتضيات حسن إدارة الأزمات أن يكون الرقيب عبئاً إضافياً على السوق، وجزءاً من المشكلة وليس جزءاً من الحل.
إن أداء الدور الرقابى الصحيح يستلزم المراجعة الكاملة للموقف، وإعادة النظر فى كيفية معالجة الأمر، فأداء الدور الرقابى فى هذه الظروف الحرجة يستوجب إعمال العقل والتدبر، إن فلسفة المعالجة للأزمة المالية والاقتصادية لا يكون عن طريق القانون الجنائى، فهذا أقرب ما يكون لسياسة إقحام الأمن لمواجهة مشكلات اجتماعية وتعليمية وعلينا أن نتوقف عن ذلك فوراً.
رجاءًً خاصاً للمسئولين الحكوميين والجهات الرقابية لا تكونوا جزءاً من المشكلة كونوا جزءاً من الحل، الأولى هو العمل على تقوية القطاع المالى غير المصرفى ودعمه فى هذه المرحلة الحرجة، والعمل على حل مشكلاته، والعمل الجاد على تفعيل الرقابة السابقة ومنع الضرر قبل وقوعه.
نقلا عن مجلة السياسى
بتاريخ 30 أغسطس 2012






