بقلم – محمد نجم
وهذا قيس آخر.. فتي كنانة المدلل.. الذي أحب وعشق مصادفة.. حيث أتاه هوي « لبني » قبل أن يعرف الهوي.. فصادف قلبه الخالي فتمكن، إنه قيس بن ذريح والذي اشتهر بأنه رضيع الحسين بن علي رضي الله عنه.. فقد رضعا من ثدي واحد، وقد تصادف أنه مر ذات يوم بخيام قبيلة كعب بن خزاعة، وطلب شربة ماء.. فخرجت له بها من خيمتها فتاة طويلة القامة جميلة الطلعة حلوة الحديث.. إنها لبني بنت الحباب الكعبية.. وما إن رآها حتي تعلق بها.. وظل يحادثها حتي أتي أبوها وتعرف عليه وأكرمه، وبعد انصرافه أخذ يردد الشعر فيها.. ثم عاود الزيارة واشتكي كل منهما بما في نفسه نحو الآخر.. وفضحت عيونهما ما يخفيه قلباهما.
وبعد فترة طلب من أبيه أن يخطب له لبني.. فرفض ونصحه بزواج إحدي بنات عمه.. فهن أحق به.. كما أنه لا يرغب أن يذهب ماله لغرباء.. فشكي لأمه موقف أبيه فكانت أشد قسوة عليه،فذهب لشقيقه في الرضاعة الحسين بن علي فلم يخذله وقام معه نحو قومه وحلف علي أبيه أن يخطب له لبني.. وخرجوا جميعاً حتي أتوا قومها وخطبوها.. وزفت إليه.. وأقاما معاً سعيدين بحبهما وزواجهما.
ولكن رغد العيش من المحال أن يستمر.. فسرعان ما أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد كانت أمه غير راضية عن تلك الزيجة.. وانتظرت حتي مرض قيس فخاطبت أباه بأنها تخشي أن يموت ابنها ولا يترك خلفا له فزوجته لا تنجب، وهم ذوو مال كثير، فطلبت من أبيه أن يزوجه غيرها، وعندما فاتحه أبوه بذلك.. وضعه قيس أمام ثلاثة خيارات: إما أن يتزوج هو فيرزق بولد ثان، إما أن يرحل هو ولبني عن الحي، أو يتركها معهم ويرحل هو، فرض أبوه وأقسم عليه إن لم يطلقها لن يجمعهما سقف واحد، وكان يخرج من الخيمة ويقف تحت أشعة الشمس وحرها.. فيخرج إليه قيس ويجاوره ويظله بردائه حتي يسقط الظل عليه.. فينصرف عنه.
وكانت لبني هي الأخري تشجعه علي ذلك.. وكانت تقول له: يا قيس لا تطع أباك فتهلك وأهلك معك.. وكان يجيبها: ما كنت أطيع أحداً فيك أبداً..
ولكنه بمرور الأيام لم يستطع مقاومة ضغط والديه، وما إن نطق بالطلاق حتي طار عقله، ومسه شيء من الجنون، وانطلق الشعر علي لسانه.. ليعبر به عن حزنه ويأسه.. فقال:
يقولون لبني فتنة، كنت قبلها
وددت وبيت الله إني عصيتهم
وكلفت خوض البحر والبحر زاخر
كأني أري الناس المحببين بعدهـا
وتنكر عيني بعدها كل منظر
بخير فلا تندم عليها وطلق
وحملت في رضوانها كل موبق
أبيت علي أثباج موج مغرق
عصارة ماء الحنظل المنفق
ويكره سمعي بعدها كل منطق
أما عن لبني فقد علمت بخبر طلاقها.. وحزنت حزناً شديداً، وأرسلت إلي أبيها تخبره فأتاها، وعندما علم قيس بذلك حاول الاقتراب من خيمتها فمنعه أهلها.. وعندما شاهدها راحلة سقط مغشيا عليه،ثم أفاق وأنشد:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا
وقالوا غدا وبعد ذلك بليلة
وما كنت أخشي أن تكون منيتي
حذار الذي كــان أو هو كائن
فراق حـــبيب لم يبين وهـو بائن
بكفيك إلا أن ما حان حائن
وهو علي حاله هذا رأي غراباً أسود يسقط بجانبه.. فانئعج وتطير منه ثم قال:
ألا يا غراب البين ويحك نبئني
فإن أنت لم تخبر بما قد علمته
ودرت بأعداء حبيبك فيهم
بعلمك مـن لبني وأنت خبير
فلا طرت إلا والجناح كسير
كما قد تراني بالحبيب أدور
وعندما أتي عليه الليل.. وحل الظلام.. دخل إلي مضجعها.. وأخذ يتمرغ فيه متوجعا.. باكياً ويقول:
بت والهم يا لبني ضجيعي
وتنفست إذ ذكرتك حتـي
ياليتني فدتك نفسي وأهلي
وجـرت – منذ نأيت عني – دموعي
زالت اليوم عن فؤادي ضلوعي
هـل لدهر مضي لنا من رجوع
وجاء الصبح.. فخرج مسرعاً نحو الطريق الذي سلكته يتنسم روائحها.. ويتذكر حديثها.. ثم شاهد ظبية فحاول الاقتراب منها ولكنها نفرت منه.. فأنشد:
ألا يا شــبه لبني لا تراعي
وأصبحت الغداة ألوم نفسي
وقد عشنا نلذ العيش حينا
ولكن الجميع إلي افتراق
ولا تتيممي قلل القلاع
علـي شيء وليس بمستطاع
لو أن الدهر للإنسان راع
وأسـباب الحتوف لها دواع
وظل يعاتب نفسه علي طاعته لوالديه وطلاقه للبني.. ويقول: لقد جنيت علي نفسي.. فلماذا لم أذهب بها بعيداً.. وها أنا الآن ميت.. فمن يرد روحي إلىّ..
وانسابت دموعه علي خديه حتي بللت معطفه.. واشتد بكاؤه وهو يلصق خديه بالأرض.. ويقول:
وكل مصيبات الزمان وجدتها
سوي فراق الأحباب هينة الخطب
وإلي الأسبوع القادم…. إن شاء الله







