بات فى حكم المؤكد أن تستجيب أو ترضخ، بمعنى أدق، حكومة المهندس شريف إسماعيل، هذه المرة، لمطالب وضغوط شركات الدواء، لرفع أسعار بعض المستحضرات الدوائية، بعد الزيادة العنيفة فى سعر الدولار.
شركات الدواء تتكبد خسائر أو هكذا تقول نتيجة زيادة تكاليف إنتاج بعض الأدوية عن سعر بيعها للجمهور، وتلك الخسائر تتزايد مع كل ضربة جديدة فى سعر الدولار.
الوزراء الثمانية الذين تعاقبوا على وزارة الصحة منذ ثورة يناير، ورؤساء حكومتهم، ورؤساء رؤساء حكوماتهم لم يجازفوا، ويرضخوا لطلبات الشركات السنوات الماضية، رغم زيادات سعر صرف الدولار، لكن الأمر قد يكون مختلفا الآن، فى عهد النظام الحالى الذى أوضحت سياساته أنه فاض به الكيل من منظومة الدعم، ويتعامل بمنطق «أنا مش قادر أديك».
كلا الطرفين (الحكومة والشركات) يمتلكان أوراق ضغط حقيقية على بعضهما للتعجيل أو التأجيل برفع الأسعار، فالشركات يمكنها الضغط بعدة طرق، فى مقدمتها، زيادة أزمة نقص الأدوية وإجبار المرضى على شراء البدائل المستوردة بأسعار مضاعفة، وهذا حدث بالفعل (النواقص تخطت الألف مستحضر بأكثر من 400 صنف)، كما يمكنها مقاضاة وزارة الصحة، واتهامها بمخالفة القوانين المنظمة لتسعير الدواء، التى تنص على ضرورة إعادة النظر فى أسعار الأدوية حال ارتفاع سعر صرف الدولار %15، خاصة أن الدولار ارتفع أكثر من %60 خلال السنوات الأربع الأخيرة.
والدولة هى الأخرى لديها أوراقها للضغط بقوة على الشركات المطالبة برفع الأسعار، أو الممتنعة عن التصنيع، أبرزها التهديد بورقة سحب حقوق إنتاج المستحضرات المتوقف إنتاجها وطرحها لشركات أخرى، كما يمكنها استغلال قوة الإدارة المركزية لشئون الصيدلة التى تتحكم فى تسجيل وتسعير المستحضرات الجديدة، ويمكنها ممارسة كافة أشكال «الرخامة» على الشركات.
كل طرف يعرف قوة الآخر وحدود قوته، ويعلم تمام العلم متى يبادر بالهجوم أو التفاوض.. الدولة تؤجل القرار لأسباب دائماً سياسية خوفاً من الرأى العام والإعلام، والشركات تضغط للتعجيل بالقرار لأسباب دائماً اقتصادية وتحذّر من انهيار الصناعة.. كلاهما يضغط وكلاهما ينتظر الوقت المناسب لمعاودة الضغط، والخاسر المنتظر الوحيد هو الطرف الذى (يعصر) فى المنتصف، الذى لا يمكنه تحمل نقص الدواء أو زيادة أسعاره.
المريض هو العامل المشترك الذى يعانى حالياً من حالة (رفع) حقيقية، بدأت برفع الدعم تدريجياً عن احتياجاته الرئيسية التى تدعمها الدولة منذ سنوات طويلة، وانتهت برفع عنيف لأسعار السلع والخدمات الأساسية، ولا يتحمل أى رفع جديد خاصة على الأدوية، فقد يضطر المريض لتحجيم وترشيد وتخفيض استهلاكه من الطعام والمواد البترولية والمياه، لكنه قطعاً لا يملك الرفاهية نفسها مع الدواء خاصة أصحاب الأمراض المزمنة كـ(الضغط والسكر والقلب).
شركات الدواء يمكنها أن توافق على رفع أسعار الأدوية التى تحقق خسائر بنسبة %20 أو زيادة كافة الادوية التى يتراوح سعرها بين جنيه و10 جنيهات كحلول مؤقتة، والدولة يمكنها أن تتقبل ذلك بصدر رحب إذا تم تسويق القرار جيداً فى وسائل الإعلام، لكن المريض قطعاً لن يتحمل مزيدا من الأعباء، وهنا تكمن الأزمة.
مجلس الوزراء سيدعو حتماً شركات الأدوية لحضور اجتماع عاجل لبحث استغاثاتهم لتحريك الأسعار، وستكون المعضلة الرئيسية التى تواجه رئيسه المهندس شريف إسماعيل للموافقة على القرار، هى كيفية إقناع المريض بتقبل رفع الأسعار، وإن لم يستطع، فكيف يرضى الشركات باستمرار الوضع على ما هو عليه ويجبرها أو (يساعدها) على معاودة إنتاج المستحضرات الناقصة؟
الكرة الآن فى ملعب الحكومة والحل يمكن أن يكون من (جوه الصندوق)، أو بمعنى أدق بإنشاء صندوق جديد لدعم (شركات الدواء) على غرار صندوق دعم ومساندة الصادرات، يخصص له مبلغ مالي، يصرف منه دعم للشركات يعادل الفرق بين تكلفة إنتاج الأدوية وسعر البيع للجمهور، مع الإبقاء على اسعار الأدوية كما هي.
المخصصات اللازمة للصندوق المقترح نستطيع حسابها من خلال حصر الخسائر الإجمالية للشركات نتيجة بيع مستحضرات بأسعار أقل من التكلفة (تتراوح قيمتها التقديرية بين 2 و3 مليارات جنيه سنوياً)، ويمكن توفير تمويلها من خلال عدة جهات بينها الموازنة العامة للدولة، ورسوم تسجيل الأدوية، وضريبة المبيعات على الادوية، والجمارك المفروضة على مستلزمات الإنتاج، إضافة الى بعض الجهات التمويلية الداعمة للاقتصاد مثل صندوق تحيا مصر.
الخلاصة، الدولة مطالبة بالحفاظ على صناعة الدواء المحلية التى تواجه منافسة شرسة من الشركات الأجنبية التى تستحوذ على قرابة نصف مبيعات السوق، والشركات يستوجب عليها مراعاة الظروف الاجتماعية للمواطن المطحون، والمواطن له حق أن لا يدفع فاتورة الصراع الشرس بين الطرفين.. والحل (جوه الصندوق).








