نصف قرن وعام بعد انهيار الوحدة المصرية السورية، ذلك الحلم الوردى الذى ولد فى الثانى والعشرين من فبراير 1958، ولم يمتد به العمر إلا ثلاث سنوات ونصف السنة ثم استيقظ الحالمون فى الثامن والعشرين من سبتمبر سنة 1961، محاصرين بكابوس الانفصال المزعج.
من مراودة قمة السعادة والتحقق إلى السقوط المفاجئ فى هاوية التعاسة والتخبط، وها هما نصف قرن وعام يمران فلا يملك المتأمل لأوضاع الشعوب العربية إلا أن يجمع بين التفاؤل والخوف تفاؤل من ثورات الربيع وما تحمله من وعود ومخاوف مما قد تقود إليه من تراجع وردة.
بعد شهور قلائل من انهيار الوحدة المصرية السورية، وتحديداً فى يوم الخميس الثانى والعشرين من فبراير سنة 1962، الذى يصادف الذكرى الرابعة لقيام الوحدة، صدر عن «الدار القومية للطباعة والنشر» كتاب للأستاذ محمد حسنين هيكل يحمل عنوان «ما الذى جرى فى سوريا» واللافت للنظر أن الطبعة الأولى من الكتاب هي الوحيدة والأخيرة، فهل يتعمد هيكل أن يهمل كتابه القديم، أم أنه لا يرى فيه ما يستدعى إعادة طباعته؟!
الأساس الهش
فى مقدمته القصيرة للكتاب، يقول الأستاذ هيكل إنه كان يعد العدة قبل وقوع الانفصال لدراسة واسعة عن تجربة الوحدة: «وتقييم حر لمشاكلها وأوضاعها» ولعل هذا التهيؤ هو ما يفسر الظهور السريع للكتاب، فهل يصلح لاستنباط شهادة واحد من صناع القرار المصرى، بحكم موقعه الصحفى المتميز من ناحية وصلته القوية الوثيقة مع الرئيس جمال عبدالناصر من ناحية أخرى؟
عبارة مهمة جديرة بالتأمل والتحليل، يقول فيها الأستاذ هيكل ما نصه: «دعونى أقل أولاً إن الوحدة التي تمت فى فبراير من سنة 1958 كانت عملاً سهلاً، خدعتنا سهولته وصورت الأمر للأمة العربية على نحو هين ويسير».
مفردة «السهولة» هنا ترادف الخفة والتعجل وتعنى غياب الرؤية المتأنية الواضحة فى التعامل مع المشروع الخطير، المؤلف نفسه هو من يرى أن الأمة العربية لم تكن تملك مقومات التدعيم الحقيقى لوحدة شعوبها: «لقد كان يجب أن يكون هناك أساس فكرى عميق لإقامة الوحدة، وكان يجب أن يكون هناك أساس اقتصادى لإقامة الوحدة، وكان يجب أن يكون هناك أساس اجتماعى قوى لإقامة الوحدة، وذلك كله لم يكن قائماً، وإنما كانت هناك مرحلة خطر».
هل كان افتقاد الأسس السابقة غائباً عن إدراك القيادة المصرية وهى تتخذ قرار الوحدة؟
هل كان صناع القرار ومنهم الأستاذ هيكل جاهلين بحقيقة أن المرتكزات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية ليست قائمة؟!
لا تفسير للإقدام على الوحدة بمثل هذه السرعة والرعونة، فى ظل الوعى بهشاشة أسسها، إلا الاندفاع العاطفى غير المحسوب، حيث الانتصار «السهل» للأحلام والشعارات الوردية، فمن الذى يتحمل مسئولية الخلل الفادح الذى أفضى إلى الانهيار؟!
كان المأمول أن يجيب الأستاذ هيكل فى كتابه عن أسئلة المحنة ويحدد المسئولية بوضوح، لكن المباهاة بالوعى بعد فوات الأوان لا تعنى شيئاً، وشهادة الصحفى الشهير تتخذ طابعاً دفاعياً تبريرياً، يقف بالقيادة الناصرية خارج مرمى نيران النقد، وبذلك يعجز القارئ عن استيعاب خريطة الأزمة، ويجد نفسه مطالباً بالموافقة غير المشروطة على وجود «مؤامرة» متقنة ناجحة دبرها الرجعيون المتحالفون مع الاستعمار، أما الذين هيأوا المناخ لنجاح «المؤامرة» بقصورهم الفاضح وتقصيرهم المشين، فهم أبرياء مخلصون مثاليون حسنو النية!
يذهب الأستاذ هيكل إلى أنه: «لم يكن هناك فى الواقع بين الشعبين العربيين فى مصر وسوريا من روابط فعلية وإيجابية لقيام الوحدة الفورية إلا شىء واحد.. هو جمال عبدالناصر وشخصيته وشعبيته».
يتصدى الأستاذ هيكل لتقديم إجابة صحيحة دقيقة بقوله: «إن شخصية البطل لا تكفى وحدها لتصنع وحدة الأمة العربية. إن شخصية البطل يمكن أن تكون قوة دافعة يمكن أن تكون قوة قادرة على التمهيد للأسباب الحقيقية للوحدة.
ولكن شخصية البطل لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون كل أساس الوحدة وكل مضمونها. إن شخصية البطل تستطيع أن تقود.. وتستطيع أن تلهم، ولكنها لابد أن تقود قوى شعبية عارمة.
هذا كله صحيح بطبيعة الحال، لكن المأخذ الجوهرى على تحليل الأستاذ هيكل أن شيئاً مما قاله لم يوضع فى الحسبان عند اتخاذ قرار الوحدة، ذلك أنها قامت بقوة دفع البطل، ثم انهارت دون قدرة من البطل نفسه على إنقاذها!
شروط عبدالناصر
وفقاً لرواية الأستاذ هيكل وهى صحيحة تتكرر الإشارة إليها فى مصادر شتى، فقد وضع الرئيس جمال عبدالناصر شروطاً ثلاثة لإتمام الوحدة:
أولاً: أن يتم استفتاء شعبى على الوحدة ليقول الشعب فى سوريا وليقول الشعب فى مصر رأيه الحر فى التجربة ويعبر عن إرادته.
ثانياً: أن يتوقف النشاط الحزبى فى سوريا توقفاً كاملاً، وأن تقوم الأحزاب السورية بحل نفسها.
ثالثاً: أن يتوقف تدخل الجيش فى السياسة تدخلاً تاماً، وأن ينصرف ضباطه إلى أعمالهم العسكرية ليصبح الجيش أداة دفاع وقتال وليس أداة سلطة فى الداخل وسيطرة.
لا جدال حول موضوعية ومعقولية الشرطين الأول والثالث ولا ضمان للاستمرار والاستقرار بمعزل عن الفصل الحاسم بين الجيش والعمل السياسى، لكن الشرط الثانى يمثل مشكلة حقيقية عند السوريين الذين لا يسهل تخليهم عن الانتماءات الحزبية، بقدر ما أن هذا التخلى ضرورى فى «الإقليم» المصرى الذى أعطى ظهره للحياة الحزبية التعددية قبل أكثر من خمس سنوات.
الذى حدث عملياً هو إلغاء الأحزاب السورية واستمرارها فى الوقت نفسه، ولم تكن هذه الازدواجية المدمرة غائبة عن عبدالناصر، فهو يتعامل مع السوريين بعد الوحدة من منطلق الانتماء الحزبى، ويخاطب السياسيين والوزراء على أنهم يمثلون أحزاباً وقوى سياسية!
خصوصية الشعب السورى لم توضع فى الاعتبار عند تفعيل مشروع الوحدة، وكما يذكر الأستاذ هيكل فإن شكرى القوتلى وقع بإمضائه على اتفاقية الوحدة، ثم قال بلهجته العالية وبطريقته المشهورة: «ها.. أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس!
أنت أخذت شعباً يعتقد كل من فيه أنه سياسى، ويعتقد خمسون فى المائة من ناسه أنهم زعماء، ويعتقد 25% منهم أنهم أنبياء وهناك عشرة فى المائة على الأقل يعتقدون أنهم آلهة».
واستطرد شكرى القوتلى: أخذت ناساً فيهم من يعبد الله، وفيهم من يعبد النار، وفيهم من يعبد الشيطان وفيهم من يعبد «…»!
وذكر شكرى القوتلى كلمة لا أستطيع أن أضعها على الورق.
ونظر جمال عبدالناصر إلى شكرى القوتلى وقال ضاحكاً: لماذا لم تقل لى ذلك قبل أن أوقع على الاتفاق بإمضائى؟ يا لها من كوميديا سوداء بحق، فكيف تنجح وحدة المصريين مع شعب يدمن السياسة والزعامة ويتوهم قطاع لا يستهان به من أبنائه أنهم أنبياء وآلهة، وتتوزع عباداتهم بين الله والنار والشيطان و«الكلمة النابية» التى لا تُكتب؟
المستخلص مما يقوله الأستاذ هيكل فى شهادته أن الوحدة المصرية السورية قامت على غير أساس: «ولقد عبر جمال عبدالناصر بنفسه عن ذلك فى حديثه لقادة الجيش السورى، حيث جاءوه بالطلب الأول للوحدة حين قال لهم فى بيته ليلة 15 يناير 1958 إن الوحدة تحتاج إلى خمس سنوات على الأقل من التمهيد الاقتصادى والاجتماعى ليكون لها الأساس المتين».
ثم اضطر عبدالناصر إلى تغيير رأيه أمام احتمالات الخطر التى تهدد سوريا من الداخل والخارج وأمام الضغط الشعبى السورى.
أهى وحدة جادة تراود الاستمرار، أم إجراء مؤقت لدفع الخطر والاستجابة للضغط الشعبى؟
أحادية النظرة
لا يملك القارئ لكتاب الأستاذ هيكل إلا التسليم بمسئولية المتآمرين السوريين وحدهم عن فشل تجربة الوحدة، متعاونين مع القوى الرجعية والاستعمارية، أما الإدارة السياسية المصرية بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر، فهى ناجحة متزنة موضوعية مثالية بلا أخطاء أو تجاوزات، ومثل هذا التحليل أحادى النظرة لا يستقيم بطبيعة الحال مع معطيات المرحلة، فليس منطقياً أو مقنعاً أن يتحمل طرف واحد مسئولية الانفصال، وما يشير إليه هيكل فى المقدمة عن «تقييم حر» لا وجود له فى فصول الكتاب.
ينقل الأستاذ هيكل ما قاله عبدالناصر لنائبه عبدالحميد السراج: «أنت تعرف رأيى فى كثير من إجراءات البوليس فى دمشق، ولقد قلت لك إنها فى كثير من الأحيان تضر بسمعة الجمهورية أكثر مما تخدم أمنها.. وأنا أقدر حسن نيتك فيما تفعله وأفهم أن الإخلاص للجمهورية هو الذى يدفعك إليه، ولكن الأمور لا تحتاج الوصول إلى هذا المدى الذى يصل إليه بعض رجالك فى بعض الأحيان».
هل يرفض عبدالناصر مبدأ القمع البوليسى، أم أنه يتحفظ على ما فى هذا القمع مع إسراف وتطرف؟! لا معنى للحديث عن «حسن النية» و«الإخلاص» عندما يتعلق الأمر بإهدار حقوق الإنسان، وعبدالحميد السراج نفسه هو من يرفض تقييد حريته فى اعتقال من يشاء عن غير طريق السلطة القضائية، بل إن الأستاذ هيكل يروى عن تجربته الشخصية مع «المكتب الثانى»، حيث المعاملة القاسية المتعجرفة، ألا تمثل الأجواء البوليسية كابوساً يجعل من الحديث عن وطنية السراج وإخلاصه قولاً عبثياً؟!
لا يتوقف الكتاب، وما كان بمقدروه أن يتوقف أمام الدور السلبى للمشير عبدالحكيم عامر الرجل الثانى فى النظام الناصرى خلال تجربة الوحدة، فقد استطاع المشير أن يضاعف من أعداء الخصوم والمتذمرين، لكن الذى يتطرق إليه هيكل يبدو جزءاً من مؤامرة مصنوعة: «حين ذهب المشير عبدالحكيم عامر مزوداً بكل سلطات رئيس الجمهورية إلى دمشق ليحل بعض المشكلات العاجلة فى سوريا بروح محايدة بعيدة عن الصراع الحزبى العنيف الذى كان يمزق الوطن السورى، حين حدث هذا، بدأت النغمة تتردد:
ـ لقد جاء «نائب الملك».
وكانت الإشارة واضحة والإيحاء ظاهراً.. «كانوا يريدون القول إن مهمة عبدالحكيم عامر فى دمشق مماثلة لمهمة نائب الملك فى الهند وقت الاحتلال البريطانى لها»!
هل كان المشير عبدالحكيم عامر سياسياً محنكاً محايداً بعيداً عن الهوى والانحياز؟ وهل كان سلوك ضباط مكتبه وكبار معاونيه فوق مستوى الشبهات؟!
لم يكن مجرد التلميح إلى دور المشير عامر ممكناً فى فبراير 1962، بل إن عجز الأستاذ هيكل عن إهمال الدور المهم الذى لعبه العقيد عبدالكريم النحلاوى فى قيادة الانفصال، يتم تقديمه بطريقة غرائبية، فقد كان العقيد كاتماً لأسرار الجيش، ومديراً لمكتب القائد العام، فليكن النحلاوى متآمراً وعميلاً ومرتشياً، لكن: ماذا عن الذى اختاره للمنصب الخطير وأعطاه كل الثقة والصلاحيات؟!
يقول الأستاذ هيكل: «ولقد أوضح الانقلاب أن عبدالكريم النحلاوى فى تصرفاته لم يكن يصدر عن الرغبة فى تعزيز قدرة الجيش السورى على الدفاع ضد إسرائيل، وإنما كان يصدر عن الرغبة فى تعزيز إمكانية إحداث انقلاب، ومن الغريب أن النحلاوى كان موضع الثقة، ومع ذلك كان فى الوقت نفسه أداة فى يد الخيانة»!
إذا كان العقيد النحلاوى مستحقاً للإدانة والتشهير لأنه أداة فى يد الخيانة، فماذا عن المشير الذى دعمه ومنحه الثقة والنفوذ؟ ألا ينم هذا الاختيار عن فشل عامر فى الإدارة وتحمل أعباء المسئولية الثقيلة؟ إنه يعلى من شأن الاعتبارات الشخصية والمزاجية، ولا يخضع فى اتخاذ قراراته لمعايير الكفاءة والالتزام، لكن الأستاذ هيكل لا يشير إلى شىء من هذا، وذلك أن المشكلة كلها عنده فى مؤامرة الرجعية والاستعمار!
……….
نصف قرن وعام بعد الانفصال، والملف القديم الجديد يحتاج إلى المزيد من التأمل والتحليل، فقد يعين هذا الجهد فى الوصول إلى حقيقة أن العواطف لا تضع نجاحاً، وغاية ما تفعله الشعارات البراقة الملونة تشييد القصور على الرمال!






