بقلم – بهجت درويش
فيما تكافح الدول للتغلب علي حالة الركود العالمي المستمر منذ فترة طويلة، بات الاستخدام المتزايد للتقنيات الرقمية واحداً من أهم الوسائل الواعدة لتعزيز النشاط الاقتصادي، فالتبني الجماعي للتطبيقات الرقمية بوساطة عملية الربط بين الخدمات والأجهزة، والمعروفة باسم التحويل الرقمي، يبرهن علي كونه وسيلة قوية لتوفير الخدمات والابتكارات الحديثة في قطاعات متنوعة، بالاضافة إلي خلق الثروة وفرص العمل.
في عام 2011، أضاف التحويل الرقمي 193 مليار دولار إلي الحصيلة الاقتصادية العالمية وخلق 6 ملايين وظيفة جديدة وفي العام ذاته في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحدها، أسهم التحويل الرقمي في تحقيق ناتج إضافي بقيمة 16.5 مليار دولار، ونحو 380 ألف فرصة عمل جديدة.
لكن لا يسعنا النظر إلي التحويل الرقمي علي أنه علاج عام للويلات الاقتصادية، بل إننا نلحظ عند تفحصه عن كثب وجود المزيد من الاختلافات الدقيقة في آثاره بين البلدان والقطاعات.
لذا يعد هذا النمط التفصيلي من الفهم ضرورياً للغاية لصناع السياسات، والذين قد يميلون إلي الدفع بالتحويل الرقمي ليشمل مناحي الحياة جميعها، إذ يسمح لهم بصياغة السياسات التي تزيد من حجم فوائد التحويل الرقمي.
ما يثير الدهشة هو أن الاقتصادات المتقدمة تتمتع بفوائد اقتصادية كبيرة من التحويل الرقمي، مثل النمو والإنتاجية، لكنها تحقق مكاسب أقل فيما يتعلق بالوظائف في ألمانيا، قاد تزايد الاعتماد علي التحويل الرقمي إلي ايجاد ما يقارب 8.7% من معدل التغير في الناتج المحلي الإجمالي ما بين عامي 2010 و2011، لكن نسبة الوظائف الجديدة اقتصرت علي 7.7% فقط بل من المحتمل ان تتلاشي بعض الوظائف في الأنظمة الاقتصادية المتقدمة فيما يخص قطاعات معينة، مثل: الخدمات المالية والتصنيع.
في المقابل، تمتلك الأسواق الناشئة مكاسب مهمة من التحويل الرقمي علي صعيد التوظيف، لكنها لا تحرز تقدماً مماثلا من حيث المخرجات والإنتاجية. وتشير تقديراتنا إلي أن 94% من مجمل الوظائف التي أوجدها التحويل الرقمي في عام 2011 قد توافرت في الدول النامية ـ لكن هذه الدول، التي تعيش فيها الأغلبية الساحقة من سكان العالم، قد حصدت ما نسبته 71% فقط من الزيادة في النمو الاقتصادي.
إن أفضل طريقة تتيح لصناع السياسات تجيير أثر التحويل الرقمي لصالحهم، هي أن يصبحوا صناعاً للسوق الرقمية، بمعني: زيادة الانخراط في قطاع تقنيات المعلومات والاتصالات، فالعديد من صناع السياسات يشاركون حالياً في وضع السياسات وصياغة الأحكام الناظمة، لكن ينبغي عليهم في المقابل ـ وبوصفهم صناعاً للسوق الرقمية ـ أن يعملوا علي تعزيز النشاطات الاقتصادية الرقمية التي تعود بالفائدة علي الشركات التجارية والمجتمع، ما يقود إلي ميزة تنافسية واضحة في السوق العالمية.
كما يستوجب علي صناع السياسات في إطار هذا الدور الجديد، ان يكثفوا من تركيزهم علي مجالات ثلاثة: وضع الخطط المتعلقة بالتحويل الرقمي في القطاعات المستهدفة، ودعم الامكانات اللازمة لنجاح هذه الخطط، وتنشيط المنظومة الأوسع لتقنية المعلومات والاتصالات بغرض التشجيع علي تبني التطبيقات الرقمية واستخدامها.
وتعتمد خطط القطاعات علي: قيام صناع السياسات بوضع أولويات لتلك النشاطات الاقتصادية التي توفر أفضلية تنافسية وطنية، وعلي إدراكهم لكيفية تعزيز التحويل الرقمي لهذه الميزة التنافسية وتقويتها، وهذا يعني أيضاً استيعاب عملية المفاضلة بين الإنتاجية وفرص العمل، وتقليص الاضرار الناجمة عن أي انخفاض محتمل في فرص العمل. في السنوات الأخيرة، وبينما أصبح كل من: قطاع الخدمات المالية والتصنيع يمتازان بإنتاجية أكبر في الولايات المتحدة تلاشي العديد من الوظائف، نظرا لتحويل الأنشطة المساندة إلي المكسيك.
وفي الفترة ما بين 2002 و2009، كانت المحصلة النهائية لهذا التوجه انخفاضاً بنسبة 6% في حجم وظائف القطاعات التجارية في الولايات المتحدة، ونمواً بنسبة 15.2% في حجم تلك الوظائف في المكسيك.
وهذا يعني أنه كلما اتجه التصنيع أكثر نحو التحويل الرقمي تتحسن الإنتاجية وتُفقد الوظائف. أما الأسلوب المتبع في سنغافورة فيرتكز علي تسريع عملية التحويل الرقمي لزيادة القدرة التنافسية للقطاعات المهمة، ولكن بالتزامن مع تعزيز الحماية الاجتماعية.
وينبغي لصناع السياسات أن يتفحصوا منظومة تقنية المعلومات والاتصالات علي نحو عام، من أجل تطوير الإمكانات والعوامل المساعدة لضمان نجاح خطط التحويل الرقمي في القطاعات المختلفة.
ولن يكون من الكافي النظر إلي تقنية المعلومات والاتصالات من ناحية البنية الاساسية والإنتاجية فحسب. وبدلاً من ذلك، يمكن للحكومات، فور استيعاب النواحي المتعددة لمنظومة هذا النوع من التقنية، ان تقرر ما إذا كانت تريد أن تلعب دوراً تطويرياً أو تمويلياً أو مساعداً تجاه تلك الإمكانات.
قد يتوجب علي صناع السياسات ان يشاركوا في السوق بدور المطورين، فيما يختص المجالات التي تحتوي فجوات في البنية التحفيزية، والتي تدفع الشركات الخاصة إلي الاستثمار، كما يمكن للحكومة ان توفر التمويل في المواضع التي تكثر فيها المخاطر علي القطاع الخاص، أما دورها كمساعد، فتستطيع الحكومة أن تعمل علي ضبط منظومة تقنية المعلومات والاتصالات وتدعيم الخدمات المالية، من خلال اطلاق مبادرات البيانات المفتوحة علي سبيل المثال، والتي تتيح للمطورين أن يدخلوا إلي قواعد البيانات الحكومية غير الحساسة.
إن هذه الأدوار الثلاثة لبناء الإمكانات، أي التطوير والتمويل والمساعدة، تغدو أكثر فاعلية في حال توافرت العوامل المساعدة بالشكل الصحيح: ألا وهي رأس المال والتفكير الريادي والبنية الاساسية الرقمية.
ويعد رأس المال المغامر مهماً علي نحو خاص لأنه ينضوي علي رغبة أكبر في خوض المخاطر، مقارنة بالتمويل التقليدي. لسوء الحظ، لا يوجد في الشرق الأوسط حالياً سوي القليل من المستثمرين المغامرين.
لكن المنطقة تبلي بلاء أفضل من حيث إجراء البحوث، وذلك بفضل الاستثمارات التي تسعي إلي خلق مؤسسات رفيعة المستوي، ففي السعودية توجد مراكز بحثية تابعة لجامعة الملك عبدالله للعوم والتقنية، وهناك أيضاً خاضنة تقنية تابعة لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.
أما الجانب الثالث والأخير من صناعة السوق الرقمية، فيتمثل في إطلاق منظومة تقنية المعلومات والاتصالات ومراقبتها، بحيث تعمل الهيئات الحكومية والشركات والمستهلكون علي تبني التحويل الرقمي، ولتحقيق هذه الغاية، يتوجب علي صناع السياسات أن يكونوا قادرين علي قياس أثر سياساتهم، ما يشكل تحدياً ملموساً نظراً لغياب المعايير الواضحة.
كما سينبغي لهم الاتفاق حول آلية قياس اثار التحويل الرقمي، ليكون هناك نوع من التناغم بين القطاعات، فالنجاحات المرتكزة علي البراهين ستشجع المستهلكين والمواطنين علي تبني التقنيات الرقمية.
من خلال فهم الآثار المتفاوتة للتحويل الرقمي، يمكن لصناع السياسات الاستفادة من التحويل الرقمي في اكتساب أفضلية تنافسية وطنية.
وهذا الأمر ينضوي علي أهمية خاصة لمنطقة الشرق الأوسط، نظراً لسعيها الدائم نحو خلق المزيد من فرص العمل، وتوسيع القاعدة الاقتصادية، والعمل علي انخراط المزيد من النساء والشباب في النشاط الاقتصادي، كما لا يُعقل أن يقف صناع السياسات موقف المتفرج، بل يجب عليهم الاجتهاد في بناء أسواق رقمية اذا ما أرادت بلدانهم ان تجني مكاسب التحويل الرقمي.








