قصة قصيرة بقلم الخبير المالي باسل الحيني
لم يصدق عينيه من جَمال المشهد أمامه. يا الله! أي روعة هذه؟ صفان متقابلان من أشجار و نخيل لم يرَ لهما مثيلا و لا في أجمل مشاهد الطبيعة الخلابة في المجلات أو الكتب أو التليفزيون، بينهما ممر من النجيل الأخضر النضر، يحفه تحت الأشجار أحواض متلاصقة من الزهور بألوان بديعة خلابة، خُيِل اليه أنها تختلف عما يعرفه من ألوان. بينما استكان قلبه لهذا المشهد، احتارت عيناه في مصدر الضوء الذي يغمر المكان، فلا هو ساطع كضوء الشمس و لا خافت كضوء القمر. ما هو الوصف الذي دار بخلده لهذا الضياء؟ “مثالي”! نعم، كل ما حوله مثالي، و كذلك أثره عليه، اذ شعر بسعادة لم يشعر بمثلها طوال سنوات حياته التي تعدت الخمسين، بل لم يكن يتصور أن يوجد مثلها. لذلك تردد لوهلة؛ هل هذا خياله يوحي اليه بما هو غير موجود؟ لكن كيف للخيال أن يضفي علي قلبه هذه السكينة و يحيطه بهذه السعادة التي تشعره أن قدميه لا تلمسان الأرض؟ و فجأة أحس بصوت؛ نعم أحس بالصوت المختلف، المميز و لم يسمعه، يناديه أن “أقبِل و لا تخف، تعال الينا مطمئنا، راضيا، مرضيا مودعا آخر عهد لك بأي مشاعر حزن”. و نظر فاذا مصدر الصوتِ كائنا لم يميز أذكر هو أم أنثي، جماله الباهر يخلب الألباب، و تحيطه هالة كأنما صنعت من بللور. “تعال، هلم، حللت أهلا و نزلت سهلا”…
“بابا، بابا”! صوت مألوف هذه المرة، مصحوب بشعورٍ بيدٍ تمسك كتفه و تهزه. فتح عيناه فوقعتا علي وجه ابنه عُمَر و قد كسا ملامحه الانزعاج. “يا بابا بقالي ٥ دقايق بأحاول أصحيك، خضتني”. إذن كان حلما! خسارة! أول مرة في حياته يشعر بالحزن عندما يستيقظ في منتصف حلم. لكن كيف يكون حلما ما انتابه من مشاعر و أحاسيس هي أصدق و أعمق ما أحس به طوال حياته؟ “بابا مش حضرتك قلت لي ما تسيبنيش نايم بعد الساعة ٧”؟ أعادته كلمات ابنه لواقعه فنظر الي ساعته و شاهد الوقت يشير الي عشر دقائق بعد السابعة مساءً، و من فوره نسي كل شئ و قام من الفراش لأن ما ينتظره لا يحتمل أي تأخير. نادي زوجته طالبا التأكد من جاهزية ملابسه، ثم دلف الي الحمام فاغتسل و توضأ، و عاد الي غرفته ليجد زوجته قد أعدت ملابسه و حذاءه علي الوجه الأكمل، فابتسم في سره و دعا لها، ثم هم بالدخول في الصلاة، الا أنه توقف و نادي “يا عمر، هات اخواتك و تعالوا نصلي جماعة، بس اتوضوا بسرعة عشان ما أتأخرش”. بعد الانتهاء من الصلاة استعد للخروج، “أنا نازل يا ماما”، فخرجت زوجته مسرعة لتجده ممسكا بالكاب المعلق بجانب باب الشقة، فبادرته “لا اله الا الله”، و رد “محمد رسول الله”. سحب الباب خلفه ثم توقف فجأة و عاد الي الداخل و قال لابنه “خلي بالك من والدتك و اخواتك”، ثم استدار و غادر المنزل دون كلمة أخري و هو يفكر فيما حداه أن يفعل ذلك، و ما دفعه قبلها ليدعو أولاده للصلاة رغم تعجله! الا أنه سارع بطرد هذه الخواطر، مصمما علي التركيز فقط خلال الساعات القادمة علي المهمة التي تنتظره.
و قد كان، فقد قضي الساعات التالية في عمل دؤوب بين الاشراف علي اللمسات الأخيرة من الخطة، و الاطمئنان الي تجهيز و استعداد القوات، و الانتقال لموقع العمليات، و الحرص علي قيادة قواته بحلول ساعة الصفر تماما. ساعات كأنما انفصل خلالها عن كل ما هو خارج نطاق العملية التي زاد من أهميتها انتظار الشعب المصري لها لترد لدولته هيبتها، و لتحقق الثأر للضحايا الذين مثّل المجرمون بجثثهم بطريقة بشعة. هذا التركيز الشديد جعله لا يشعر الا بصدمة خفيفة عندما أصابته الرصاصات، و مضي في قيادته للاقتحام حتي شعر فجأة بألم شديد في صدره كأن قفصه الصدري يطبق علي قلبه. تجاهل الألم لكن خذله جسده الذي ثقل علي ساقيه فسقط أرضا. أصر علي تحدي جسده فبقي علي ركبتيه رافضا الانبطاح خوفا من عدم قدرته علي القيام مرة أخري، و جعل يردد “يا رب قدّرني، يا رب ساعدني”. و بجهد جهيد استجمع كل قواه، و استخدم مدفعه كأنه عصا يتكئ عليها، ثم أسند كفه علي ركبته، و حاول النهوض و التقدم متجاهلا النار الموقدة في صدره، الا أن جسده لم يستجب لارادته الصلبة، فانهار و وجهه للأرض. الغريب أن رقدته هذه لم تسلبه تصميمه، فقد ظل تركيزه علي عدم فقدان الوعي، لعله اذا استمر واعيا يجد سبيلا للنهوض، و استعان في ذلك بالصوت الذي سمعه بجانبه لأحد الأشخاص يصرخ كأنه يتحدث علي التليفون طالبا النجدة له، فركز كل حواسه الساعية للمقاومة علي هذا الصوت، عله يساعده في الابقاء علي وعيه.
و فجأة، رأي ما أنساه الصراع و المقاومة. “ايه ده؟ معقول؟”. قالها لنفسه و هو ينظر أمامه غير مصدق. وجهه ليس علي الأرض، بل هو واقف علي قدميه. لم يعد يسمع الصوت الذي كان بجانبه، بل حفيف أشجار خفيف، نزل بردا و سلاما علي قلبه الذي لم يعد هناك ما يطبق عليه، بل هو حُر قوي ينبض كما لم ينبض من قبل. الا أن هذا كله لم يكن مبعث دهشته، بل ما رآه أمام عينيه: نفس المشهد الذي مر به قبل أن يوقظه ابنه عُمَر. نفس الروعة، نفس الابهار. ثم ظهر الكائن الجميل، و هذه المرة “سمع” صوته العبقري، “أقبِل و لا تندهش، فأنت حيٌ عند ربك. نحن بانتظارك منذ جمعنا بك اللقاء قبل ساعات”. عاودته مشاعر الطمأنينة و السعادة الغامرة، أحس بالفعل أن قدميه لا تلمسان الأرض، لكن لوهلة اعتراه القلق أن يوقظه أحد من هذا الحلم الجميل.
ثم سمع صوت المَلَك يناديه ” أقبِل يا نبيل”، فغشيت قلبه عندما سمع اسمه راحة عرف وقتها ألا تعب بعدها، اذ أيقن أنه شخصيا المعنِي بكل هذا، و أن هذا المشهد الذي يخلب الألباب ليس حلما بل هو واقعه الجديد، و حياته التي لا فناء بعدها، فتبدد كل أثر للقلق، و سار مع المَلَك الجميل و هو فرِحٌ مستبشر.
بسم الله الرحمن الرحيم
“وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ# فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ”.
صدق الله العظيم.







